هل تتلاعب أوبك بأسعار النفط؟

يرى بعض الاقتصاديين من أمثال بول فرانكل Paul Frankel أن سيطرة التكتلات الاحتكارية على سوق النفط عبر التاريخ، منذ اكتشاف البترول وتحوله إلى سلعة استراتيجية وحتى وقتنا الراهن، هو بسبب طبيعته الخاصة كونه مرتبط بشكل مباشر بالنمو العالمي وتغيراته، على عكس غيره من السلع. على النقيض، يرى أخرون كموريس أدلمان Morris Adelman أن كل السلع، بما فيها النفط، يجب أن تخضع لقوى السوق وأن غياب هذا الشرط أدى إلى أفول جميع التكتلات وأن الأمر ذاته ينطبق على اوبك.

في حقيقة الأمر، تعد أوبك استثناءً فريداً وحالة خاصة بسبب شفافيتها واستمراريتها وتوسعها، والأهم خصوصية الأهداف التي نشأت من أجلها، على عكس التكتلات التي سبقتها. تكيفت المنظمة عبر تاريخها الطويل مع الكثير من التطورات سواءً على المستوى الداخلي أو الخارجي كالأزمات الاقتصادية والحروب الإقليمية وغيرها وهو ما سنراه لاحقًا.

في كتابه: "النفط بين إرث التاريخ وتحديات القرن الحادي والعشرين"، يرى الاقتصادي المعروف الدكتور ماجد المنيف أن أوبك مرت بـ 6 مراحل تطور، جاءت كلها بالتوازي مع المتغيرات الداخلية والعوامل الخارجية التي شهدتها المنظمة ومحيطها، إلا أنني سأختصرها إلى 3 مراحل وهي كالتالي:

1- مرحلة التنظيم والتأسيس (1960 – 1973):

يظن البعض أن تأسيس أوبك كان وليد لحظة، والحقيقة أن ميلادها كان نتيجة لجهود ولقاءات عديدة بين وزير النفط السعودي عبد الله الطريقي رحمه الله ووزير الثروة المعدنية والهيدروكربونية الفنزويلي خوان بابلو ألفونسو سبقت الإعلان عن قيامها بسنين. على الرغم من التباين في أفكارهما وشخصياتهما واهتماماتهما إلا أن كلاهما آمن بضرورة بسط نفوذ الحكومات على مواردها النفطية وإعادة رسم العلاقة الغير متكافئة بين الأخوات السبع والحكومات بما يتماشى مع مصلحة الطرفين.

كان إعلان الشركات عن خفض الأسعار المعلنة للنفط في يوليو سنة 1960 دون تنسيق مع الحكومات بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير، والتي على إثرها أعلنت 5 دول هي السعودية وفنزويلا وإيران والعراق والكويت، بتنسيق من الوزيرين، عن تأسيس أوبك في سبتمبر 1969، مما أثار حفيظة ودهشة العالم. 

على عكس اتفاقية أكناكاري التي تم توقيعها بسرية تامة، أو الأخوات السبع التي استغلت تغاضي الحكومة الأمريكية عن تطبيق قوانين الاحتكار والمنافسة مقابل حصر أعمالهن الاحتكارية خارج أراضيها وحماية مصالحها، ساهم انتقال مقر المنظمة إلى فيينا في تعزيز مكانتها دوليًا، ومنحها الحصانة الدبلوماسية الضرورية لترسيخ سيادتها على مواردها النفطية.

في سنة 1969، وقّع ممثلو أوبك وثيقة "إعلان السياسية النفطية للدول الأعضاء" التي تبنت فيها المنظمة خيار التفاوض مع الشركات النفطية عبر الحصول على حصة في امتيازاتها النفطية، بهدف إضعاف تحالف الأخوات السبع، والأهم تأميم الامتيازات تدريجيًا على غرار تجربتيْ فنزويلا وإيراناللتان بدأتا هذه الخطوة مسبقًا. بعد إمضاء الوثيقة، دخلت أوبك في مفاوضات جماعية مع الأخوات السبع على عدة أمور، من بينها التنسيق فيما يخص تسعير النفط وإعادة التفاوض على عقود الامتياز، مما اضطر الشركات إلى تقديم تنازلات لم تكن على استعداد لتقديمها في السابق على الرغم من أن انتاج النفط الأمريكي قد بلغ ذروته سنة 1970 وتقديم تنازلات مثل هذه كان أمرًا صعبًا لها.

جاءت اللحظة الحاسمة في أواخر 1973 حين اندلعت حرب أكتوبر وارتفعت أسعار النفط بشكل حاد، على إثرها دخل أعضاء أوبك في مفاوضات حازمة مع الأخوات السبع لتعديل الأسعار المعلنة واعتماد الأسعار الفورية، لكن الأخيرة رفضت، مما حَدى بأوبك أن تعلن ولأول مرة دون الرجوع إلى الشركات، عن رفع أسعار مبيعات النفط بنسبة 70%، مما شكل صدمة لدى الرأي العام العالمي، وبهذه الخطوة انتقلت أوبك من كتلة تفاوضية إلى مهيمن على صناعة القرار في الشأن النفطي.

2- مرحلة التنافسية (1974 – 1986): 

كما أشرت سابقًا، سيطرت الأخوات السبع على الصناعة بالكامل عن طريق التكامل الرأسي من التنقيب والإنتاج إلى النقل والتوزيع والتسويق فقليلًا ما كان يتم عرض النفط الخام للبيع. خلال هذه المرحلة، بدأ نفوذ الأخوات السبع في الأفُول بعد أن استكملت معظم الحكومات إجراءات تأميم أو تَمَلُّك شركات الامتياز، ازدادت هيمنة دول أوبك على الجزء الأعلى من الصناعة والمتعلق بالتنقيب والإنتاج فقط لكن بقي النقل والتوزيع والتسويق عالميًا تحت سيطرة الشركات النفطية الدولية. 

نتج عن سيطرة أوبك على احتياطيات النفط وجود سوق عالمية ضخمة للنفط الخام، ونقل المنافسة من سوق المنتجات النفطية إلى النفط الخام ووجدت المنظمة أمام أكثر من 150 مشتر حول العالم مقارنة بوضع كانت الشركات السبع تستحوذ على نحو 80% من إنتاج دول المنظمة.

شهدت المنظمة خلال هذه المرحلة الكثير من الانقسامات والصراعات بسبب اختلاف وجهات النظر. مع ازدياد العائدات التي تتدفق على ميزانيتها والتنافس المحموم بين أعضاءها، صوتت الأغلبية في أوبك لصالح قرار تثبيت الأسعار Price Fixing في أواخر 1974 ولاحقًا اعتمدت نظام المحاصصة سنة 1982.

أدت الظروف السياسية التي صاحبت الثورة الإسلامية في إيران ومغادرة الشركات الدولية وما تلاها من انخفاض حاد في صادرات النفط الإيرانية، بالإضافة إلى اندلاع حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق إلى حالة من الهلع والشراء المحموم إبان الأزمتين مما اضطر أوبك إلى تغيير سياسية تثبيت الأسعار وتغيير آلية التسعير أكثر من مرة.

بعد حرب أكتوبر، قامت الدول الصناعية بتأسيس المنظمة العالمية للطاقة التي نجحت في تحقيق الكثير من الأهداف، كبناء مخزون استراتيجي نفطي Strategic Petroleum Reserve لأعضائها، وتقليص الاعتماد على النفط في توليد الكهرباء، خصوصًا في أوروبا، إضافة إلى تنويع امداداتها من النفط خارج أوبك خصوصًا من بحر الشمال وشمال وغرب أفريقيا.

لم تصمد اتفاقية تثبيت الأسعار طويلًا مع انخفاض معدلات النمو العالمية ودخول منافسين جدد من خارج المنظمة، عدا عن الخروقات والتجاوزات التي مارسها بعض الأعضاء بقيامهم بضخ نفط أكثر من الحصة المتفق عليها، وسرعان ما تخلت عنها أوبك مع انهيار الأسعار العالمية سنة 1986 الذي عُرفت آنذاك بالتخمة النفطية Oil Glut.

3- مرحلة التكامل (1986 – وقتنا الحاضر):

بالعودة إلى بدايات المنظمة، كان الهدف من إنشائها هو برمجة الإنتاج وتوزيعه على الأعضاء على شكل حصص، لكن وبشكل تدريجي تم التخلي عن هذه المنهجية بسبب الاختلافات بين الأعضاء ومع تبنيها لمبدأ التسعير في الفترة السابقة وهيمنتها على الصناعة النفطية في دولها كليًا أو جزئيًا، فوجئت المنظمة بتحولها إلى تكتل احتكاري لم تخطط له مسبقاً.

كان وقع انهيار الأسعار عام 1986 قويًا على السوق وعلى دول أوبك، إذ أوضح حدود قدرتها في فرض أسعار ثابتة والمحافظة عليها في ظل ظروف السوق المتغيرة، كما كشف عدم استقرار المنظمة داخليا نظراً.

استفادت أوبك كثيرًا من المرحلة السابقة، وشهدت نقلة نوعية في عملها منذ أوائل التسعينات، إذ برز دورها بقيادة المملكة على وجه الخصوص خلال الأزمات التي عصفت بالاقتصاد العالمي إبان الغزو العراقي على الكويت حيث قام الأعضاء بضخ المزيد لتعويض النقص في الامدادات وخلال الأزمة الآسيوية سنة 1998 وأزمة انهيار الأسعار في عامي 2015 و2016، والتي تسببت بفائض عرض مما استدعى خفض الإنتاج لإعادة التوازن. وأخيراً وليس آخراً الإجرءات الأخيرة التي قامت بها المنظمة لتعويض نقص الإمدادات وكبحجموح الأسعار مع إعادة فرض العقوبات على صادرات النفط الإيرانية.

ساهم تبني أوبك سياسة الإبقاء على طاقة انتاج فائضة معظمها لدى السعودية واستخدامها عند اللزوم في ترسيخ دور المنظمة عالميًا كمنظم للسوق عبر زيادة العرض أو خفضه وهنا يكمن سر المنظمة وقوتها، دور أشبه ما يكون بدور البنك المركزي لدولة ما، الذي يقوم برفع أو خفض نسبة الفائدة عند الضرورة رعاية للمصلحة المشتركة وليس رغبة في احتكار السوق كما يروج له الاعلام الغربي بين الحين والآخر.

في الجزء الأول، أشرت إلى مقال للكاتب الاقتصادي المعروف د. أنور أبو العلا والذي نفى فيه صفة الكارتل عن المنظمة. لكن النفي لا ينفي التهمة ما لم يكن هنالك بديل. أوبك هي صمام الأمان لإمدادات النفط العالمية إما بالزيادة أو بالنقصان بحسب حاجة الأسواق وبما يحافظ على وتيرة النمو العالمية.

ومسك الختام نجعله دراسة نشرت في مجلة الطاقة العالمية Energy Journal في أبريل 2018 صدرت عن باحثين في مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية، أبرز التقرير بوضوح دور أوبك في تجنيب الاقتصاد العالمي خسائر سنوية تتراوح بين 170 و200 بليون دولار بفضل تبنيها سياسة تدبير طاقتها الفائضة. أرقام لا تدع مجالًا للشك في مصداقية أوبك وقدرتها على ضمان الأمن في قطاع الطاقة العالمي وبالتالي المساهمة في التطور البشري والحضاري.

مال السعودية