الرسالة وصلت إلى ميليشيات طرابلس وبانتظار خارطة روما للاستقرار
بدأت الميليشيات المسلّحة في طرابلس تستوعب أن هناك تغيرات هيكلية في إدارة الأزمة الليبية، وتدرك أن المرحلة التي ظهرت فيها على مسرح طرابلس واستقوت خلالها على مدار العامين الماضيين أوشكت على الانتهاء. وشرعت في البحث عن صيغة سياسية لضمان عدم محاسبة قادتها، والحفاظ على ما حصدته من مزايا مادية، والمشاركة في السلطة الجديدة، كلما كان ذلك متاحا لبعضها.
أكدت التطورات الأمنية على صعيد مطار معتيقة الدولي في غرب طرابلس وتأمين مقر وزارة الداخلية، ابتعاد الكتائب المسلحة عنهما، الأمر الذي لم يكن متوافرا من قبل، وهي إشارة فهمها البعض على أن وزير الداخلية الجديد فتحي باش أغا ينوي وضع حل لدور الميليشيات، بعد تلقيه ضوءا أخضر من جهات محلية وخارجية تساعده على إيجاد وسيلة مناسبة لهذه المعضلة تجنبهم حرجا سياسيا ممتدا.
ربما يكون هذا التقدم إشارة تدل على توقع المزيد من الهدوء، وتجد فيه بعض القوى الكبرى مخرجا للحصول على تسوية سياسية قابلة للحياة، عقب انعقاد مؤتمر باليرمو في إيطاليا يومي 12 و13 نوفمبر الجاري، والذي تقوم روما بالتحضير والحشد السياسي له، وتصر على أن يكون نقطة واقعية وفاصلة في عمر الأزمة الليبية.
تجتهد الحكومة الإيطالية حاليا وتوسع مروحة مشاوراتها لضمان درجة عالية من التأييد الإقليمي والدولي، وذهب رئيسها جوزيبي كونتي إلى تونس والتقى الرئيس الباجي قائد السبسي، وسيذهب إلى الجزائر الاثنين، في إطار كسب دعم دول الجوار الليبي، وسد الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها معارضو باليرمو.
وعلمت “العرب” أن كونتي أجرى اتصالا هاتفيا، استغرق نحو 90 دقيقة، مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي حول الأزمة الليبية مؤخرا، واستقبل مبعوثا رفيعا من القاهرة لنفس السبب، وبدت التفاهمات بين الجانبين واضحة حول عدد من القواسم المشتركة، تؤكد ارتفاع مستوى التعاون والتنسيق قبيل المؤتمر، والمتوقع أن تؤدي نتائجه إلى وضع خارطة طريق مصغرة تؤدي إلى الاستقرار في ليبيا.
يأتي الحرص الإيطالي على توسيع نطاق المشاورات بقصد تجنب المخرجات غير الواقعية لمؤتمر باريس في 29 مايو الماضي، واستعمت روما للكثير من النصائح التي تلقتها من جهات مختلفة، وبينها أطراف ليبية فاعلة، واستقبلت مؤخرا فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي، رئيس حكومة الوفاق، والمشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي، وعقيلة صالح رئيس البرلمان، فضلا عن غسان سلامة المبعوث الأممي إلى ليبيا، للتفاهم حول الزوايا الرئيسية والأفكار التي يحويها المؤتمر لضمان تنفيذها على الأرض.
نجحت إيطاليا في تجنب الكثير من الأخطاء السابقة وتقليص حدة التوترات السياسية التي سبقت مؤتمر باريس، ولم تتعامل مع الكتائب المسلحة على أنها “بقرة مقدسة”، وتحاول إيجاد مدخل عملي لتجاوز أزماتها، كي لا تستمر كنعصر معطل للتسوية التي تتمنى روما أن تضع لبناتها الرئيسية لضمان الحفاظ على مصالحها، وتعمدت أن ترفع جانبا من الغطاء الذي وضعته على التيار الإسلامي، بأطيافه المتباينة.
استجابت روما للنصيحة التي قُدّمت لها مؤخرا من قبل بعض القوى الإقليمية بشأن عدم مشاركة الشخصيات المدعوة (89 شخصية) من المجتمع المدني الليبي في المؤتمر رسميا، وتضم قيادات معروفة بانتمائها الإسلامي، وسيتم تخصيص يوم 11 نوفمبر لمداولاتها، أي قبل انعقاد المؤتمر بيوم واحد، ومناقشة جدول أعمال يتضمن قضايا تهم المجتمع الليبي من دون التطرق إلى ملفات سياسية مصيرية، أو اتخاذ قرارات ملزمة لآخرين.
يحمل فصل لقاء المجتمع المدني عن مؤتمر الشخصيات السياسية البارزة، دلالة مهمة بشأن عدم التمسك تماما بورقة الإسلاميين، وعدم تضخيم مشاركتهم لاحقا، ومحاولة وضعهم في إطار مقبول، لأن أحد أهم أخطاء المرحلة الماضية التعويل على دور مؤثر للتيار الإسلامي، ما جعل بعض القوى الرافضة له والممانعة لتضخيمه تقف حجر عثرة أمام شرعنة وصوله إلى السلطة في ليبيا، بكل ما تنطوي عليه من تداعيات إقليمية.
لم تبد إيطاليا ترحيبا أو رفضا واضحا للخطوة التي توصل إليها البرلمان في طبرق ومجلس الدولة، الأربعاء الماضي، حول تشكيل مجلس رئاسي جديد، يضم رئيسا ونائبين، يتم اختيار شخصية من الأقاليم الثلاثة (برقة وطرابلس وفزان) ويختار هؤلاء رئيس حكومة منفصلا، بدلا من المجلس الرئاسي الحالي الذي تشكل بموجب مقررات مؤتمر الصخيرات بالمغرب في ديسمبر 2015، بقيادة فايز السراج ويضم 9 شخصيات.
أحدثت الخطوة تشويشا سياسيا، وصاحبتها ردود فعل متفاوتة، فهي تلغي الأجسام الراهنة (برلمان طبرق ومجلس الدولة وحكومة الوفاق)، وتترك أمر المجلس المقترح مفتوحا، ليهيمن على قرارات السلطتين التشريعية والتنفيذية، وربما يثير مشكلات مضاعفة بشأن تباعد الرؤى والمسافات السياسية، لأن اختيار شخصية من كل إقليم عملية ليست هينة، قد تعيد الأزمة إلى نقطة الصفر، فعقد مؤتمر جامع لاختيار أعضاء المجلس الرئاسي عملية تستغرق وقتا، وتنكأ جراحا قديمة.
تنطوي الخطوة على مزايا ظاهرة، أهمها منع الإزدواج الحاصل بين السلطات، ووقف محاولات توظيفها سياسيا واستغلالها اقتصاديا، غير أنها تفتح الباب لتجاذبات من نوع تؤدي نتائجه إلى عدم الخروج من المشهد المعتم، وكأن هناك من يريدون عرقلة جهود وضع حد لنفوذ الميليشيات، وتخريب المساعي الرامية إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية تراعي مصلحة الدولة الليبية قبل مصالح العصابات المسلحة.
تشير التحركات التي يقوم بها غسان سلامة حاليا، إلى إعادة إنتاج فايز السراج، وتلميعه ليكون هو الخيار رقم واحد كرئيس للمجلس الرئاسي الجديد، بذريعة خبرته في إدارة الحكومة، بصرف النظر عن عدم نجاحها، كما أن عملية الاختيار سوف تستغرق وقتا طويلا، ربما تتوقف بسببها جهود التسوية الحالية، بالتالي يبدو من الملائم للدول الراغبة في الحل القبول بالسراج كحل جاهز، وتمكينه بسلاسة من سحب الصلاحيات من البرلمان ومجلس الدولة.
يحاول غسان سلامة الترويج لهذه الفكرة لدى إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة، وبعض القوى الإقليمية، متوقعا أن يقوم بزيارة جديدة للقاهرة خلال الأيام المقبلة، ضمن سياق الرؤية التي يتبناها، وتقود إلى تضخيم دور السراج السياسي، باعتباره الحل وليس المشكلة.
قد يكون هذا الطرح نظريا مفيدا، لكن عمليا يبقي جوهر الأزمة على حالها، فتوجهات السراج المرفوضة من قبل قوى ليبية مختلفة، كانت أحد دوافع المأزق الحالي، واستمراره يفضي إلى بقاء الأوضاع على ما هي عليه، ويوقف الخطوات التي اتخذت حيال تقليم أظافر الميليشيات، ولن تتمكن الجهات التي لفظتها من استكمال مسيرتها.
أدركت غالبية قيادات الكتائب المسلحة أن الرسالة التي تلقتها جادة وصارمة، وتستوجب التخلي عن ممارساتها السابقة، واستوعبت تفاصيلها من خلال تجربة مطار معتيقة، لكن جاء موقف البرلمان ومجلس الدولة والرغبة في الابقاء على حليفها السراج، ليمنحها بارقة أمل بأن اللعبة لم تنته، ويمكن أن يتم استئناف تقاذف الكرة مرة أخرى في طرابلس.
يظل الرهان باقيا على شكل القوة التي تتولى عملية الأمن، وهي الورقة التي يراوغ بها سلامة والسراج، فمطلوب أن تكون هذه القوة نظامية وصلبة وقابلة للحياة، لا تدخلها عناصر ميليشاوية ولا تنخرط فيها شخصيات ملوثة بدماء الليبيين، لأن التلاعب بألفاظ البحث عن قوة أمنية دون تسميتها يفتح الباب لعودة الكتائب المسلحة، لتكون هي العقدة والحل معا، وتتعثر الجهود التي تبذلها إيطاليا وغيرها. فهل تستطيع خارطة روما الجديدة أن تكون مقدمة للاستقرار؟
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews