عرش الدولار يهتز!

رغم أن فنزويلا ليست دولة عظمي. ونسبة مساهمتها في التجارة الدولية ليست كبيرة. إلا أن قرارها بوقف التعامل بالدولار الأمريكي سيكون له تأثيره وتداعياته.. فهذا القرار سبقه تفكير بعض الدول الكبري في كسر احتكار الدولار وإنهاء مكانته باعتباره العملة الأولي في العالم التي تستأثر بأغلب التعاملات التجارية والاقتصادية العالمية. رغم وجود عملات احتياط أخري بجواره. مثل الاسترليني الانجليزي واليورو الأوروبي. والين الياباني.. وتحول هذا التفكير إلي دعوة تبنتها الصين وروسيا منذ فترة لتأسيس نظام نقدي عالمي جديد لا هيمنة أو سيطرة فيه للدولار الأمريكي.. ولم يمض وقت طويل حتي تم الاعتراف بالعملة الصينية "اليوان" كعملة احتياط دولية. جنباً إلي جنب مع الدولار واليورو والاسترليني والين. وذلك بعد صعود الاقتصاد الصيني ليحتل المكانة الثانية بعد الاقتصاد الأمريكي. وفي ظل توقعات بصعود أكبر له ليسبق الاقتصاد الأمريكي في غضون بضع سنوات ليصير الاقتصاد الأول في العالم. بينما يتراجع الاقتصاد الأمريكي إلي المرتبة الثالثة بعد الاقتصاد الهندي. 
ولم يقتصر الأمر علي ذلك فقط. بل إن الصين سعت إلي إبرام اتفاقات مع بعض الدول مثل مصر للتعامل مباشرة باليوان.. ومؤخراً قامت بتسعير مستقبلي لصفقة بترولية بعملتها اليوان.. بينما قامت روسيا. خاصة بعد العقوبات الاقتصادية التي اتخذتها أمريكا ضدها بتخفيض موجوداتها الدولارية هذا العام.. أما المكسيك فإنها توسعت في استخدام اليوان الصيني حتي صار ثاني أهم عملة فيها. وقد استشعرت أمريكا الخطر إزاء ذلك فطلبت إعادة صياغة اتفاقية النافتا لتوفر حماية أكبر للدولار الأمريكي. الذي يحقق لها مكاسب كبيرة باعتباره العملة الأولي في العالم.. حيث تفرط في طباعة المزيد من أوراقه. دون ضابط أو رابط وتغرق به العالم حتي صارت بما تطرحه من سندات خزانة حكومية بالدولار أكبر مدين في العالم كله ومع ذلك لا تبالي أو تكترث لخطر الإفلاس الذي هدد بعض الدول! 
ولذلك عندما توقف فنزويلا التعامل بالدولار الأمريكي. ورغم أنها ليست دولة عظمي. فإن ذلك سيكون له آثاره علي مكانة الدولار. خاصة وأن فنزويلا هي مع إيران سبب الارتفاع الكبير في الأسعار العالمية للنفط. والتي لم تستطع دول أوبك بزيادة إنتاجها من النفط أن توقفه.. فما فعلته فنزويلا يمكن أن يشجع دولاً أخري علي أن تحذو حذوها. أو علي الأقل تخفض من اعتمادها علي الدولار الأمريكي وتبدأ في التعامل بعملات أخري بجانبه.. فها هو جان كلود رئيس المفوضية الأوروبية يطالب بذلك ويستنكر تعامل الدول الأوروبية بين بعضها بالدولار الأمريكي وليس بالعملة الأوروبية الموحدة. ويقول: ضرب من الجنون أن تشتري الدول الأوروبية طائرات أوروبية بالدولار بدلاً من اليورو!.. وها هي السعودية يهدد أحد إعلامييها بالتخلي عن استخدام بلاده الدولار الأمريكي في تعاملاتها الدولية إذا ما فرضت أمريكا عقوبات اقتصادية علي المملكة بسبب قضية اختفاء خاشقجي.. وهكذا عدوي التخلي عن الدولار الأمريكي تنتشر والدعوة لعدم الاعتماد عليه واستبداله بعملات أخري تتسع. وما فعلته فنزويلا يمكن أن تفعله دول أخري. خاصة في ظل السياسات الحمائية التي تنتهجها الولايات المتحدة. وبوادر الحرب التجارية التي تلوح في الأفق الدولي الآن وحذر منها صندوق النقد الدولي ومعه البنك الدولي. لأنها قد تقود إلي أزمة مالية واقتصادية عالمية. في وقت لم يبرأ العالم بعد من كل آثار أزمة 2008 حتي الآن.. فإن احتمالات توسع الصين في التخلي عن الدولار مطروحة. خاصة أن الصين لن تقف مكتوفة الأيدي كما قال مسئولوها أمام الإجراءات الاقتصادية التي تتخذها أمريكا ضدها.. وذات الشيء قد تفعله روسيا أيضاً. ولديها طلبات من بعض الدول ومنها مصر بالتعامل بالروبل.. أما الهند فهي قد تطالب باعتبار عملتها عملة احتياط دولية في ظل صعودها الاقتصادي وتوقع أن تتجاوز الاقتصاد الأمريكي في الترتيب العالمي كل ذلك يشير إلي أن عرش الدولار الأمريكي الذي يجلس عليه منذ نحو سبعة عقود مضت بدأ يهتز. وما تقوم به إدارة ترامب علي الساحة التجارية الدولية قد يعجل بذلك. عندما يحفز دول علي التخلي عن التعامل بالدولار أو تخفيض تعاملاتها الدولية به.. غير أن نزول الدولار عن عرشه ليس من المتوقع أن يتم قريباً. أو في غضون وقت قصير. لأن التخلي عن الدولار ليس إجراء سهلاً يمكن اتخاذه من قبل الحكومات في العالم.. فإن الصين مثلاً والتي تعد أكبر المستثمرين في العالم في سندات الخزانة الأمريكية لا تستطيع طرح كل ما تملكه من هذه السندات في السوق دفعة واحدة. لأن ذلك من شأنه أن يهبط بأسعارها بمعدلات كبيرة. وهذا من شأنه أن يلحق خسائر فادحة بالاقتصاد الصيني.. ونفس الشيء ينطبق علي دول أخري منها دول الخليج التي تستثمر مبالغ كبيرة في هذه السندات.. أما الدول الأوروبية فهي لديها ما يكفيها ويزيد من المشاكل الاقتصادية. ويتوقع صندوق النقد الدولي انخفاضاً في معدلات نموها الاقتصادي العام المقبل. ولذلك لن يكون يسيراً عليها اتخاذ قرار فوري باستبدال الدولار الأمريكي باليورو في كل تعاملاتها الاقتصادية. سواء تعاملاتها فيما بينها أو تعاملاتها مع دول أخري خارج منطقة اليورو.. بل حتي إيران التي تعاني بشدة من العقوبات الاقتصادية الأمريكية الجديدة التي فرضها ترامب عليها. مازالت تجري وراء الدولار الأمريكي. وهي تبيع بترولها سراً الآن.. وربما هذا ما تراهن عليه أمريكا في حماية عملتها والاحتفاظ لها بمكانتها الدولية أطول فترة ممكنة.. فهي تشجع الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. مثلما حدث في الحالة البريطانية لكي تضعف العملة الأوروبية الموحدة. اليورو.. ومن قبل ظلت تلاحق الين الياباني حتي خبا نجمه حتي لا يكون منافساً قوياً للدولار عندما استشعرت الخطر من الصعود الاقتصادي الياباني.. وذات الشيء تفعله الآن مع الصين.. تفرض العقوبات الاقتصادية عليها لتضعف اقتصادها وعملتها حتي لا تلحق بها اقتصادياً وتتجاوزها في وقت قصير. 
ولكن إذا كان اهتزاز عرش الدولار الأمريكي لا يعني سقوطاً عن هذا العرش قريباً. فإن ذلك لا ينفي في ذات الوقت أنه بدأ رحلة التراجع. وهذا التراجع حتي وإن كان بطيئاً لن يتوقف. في ظل التغير في الخريطة الاقتصادية الدولية الذي بدأ منذ سنوات. وهو التغير الذي ستخسر فيه أمريكا مكانتها الاقتصادية العالمية. عندما ستفقد المركز الاقتصادي الأول وتتراجع إلي المركز الثالث عالمياً.. وكل ما يفعله ترامب الآن هو محاولة تأخير حدوث ذلك لأطول وقت ممكن بانتهاج سياسات اقتصادية منغلقة تحت شعار أمريكا أولاً.. إلا أن هذه السياسات تحديداً ربما يكون لها تأثير عكسي وعلي غير ما يرمي ترامب.. فهي قد تشجع دولاً علي أن تتخذ القرار الذي كانت مترددة في اتخاذه وهو التخلي عن الدولار الأمريكي. واستبداله بعملة أخري مثل اليورو أو اليوان أو الين أو الاسترليني.. فلقد استفز ترامب بسياساته الكثير من الدول في الشرق والغرب معاً.. ويزيد هذا الاستفزاز بسبب إصراره علي هذه السياسات وعدم العدول عنها أو التوصل إلي اتفاقات مرضية مع الدول التي يصارعها الآن تجارياً واقتصادياً. بدءاً من المكسيك إلي الصين. ومروراً بروسيا.. وآخر تصريحات وزير خارجيته التي قال فيها إن العقوبات الاقتصادية التي اتخذها ترامب ضد الصين مفيدة للولايات المتحدة. 

الجمهورية