أميركا تعاقب إيران في العراق
معركة العقوبات الأميركية على إيران طويلة وانعكاساتها على العراق تشكل البدايات الأولى لخطوط التماس والتأثير، وهنا ستبرز المواقف المنحازة لمصالح العراق وسيادته واستقلاليته، أم الانحياز للآخرين.
ليس جديدا أو من قبيل الصدفة العابرة أن يصدر أكثر من موقف عراقي تجاه قضية تتعلق بالسياسة الخارجية كالذي صدر تعقيبا على قرارات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتعلقة بتطبيق حزمة العقوبات الجديدة على إيران تتعلق بمشترياتها بالدولار وتجارة المعادن والفحم والبرمجيات المرتبطة بالصناعة وقطاع السيارات. فقد ظهرت يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين أربعة رؤوس للموقف العراقي من تلك العقوبات، تمثلت في تصريحات رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي أكد التزام بلاده بتلك العقوبات رغم عدم تفاعله معها، يقابله موقف لوزارة الخارجية انتقد فرض العقوبات على إيران ودافع عن مواقفها “الإيجابية والمساندة” للعراق، وسبقهما موقف رئيس الجمهورية فؤاد معصوم في تصريحاته لقناة الحرة الأميركية التي أعلن فيها عدم قدرة العراق على تنفيذ تلك العقوبات، والموقف الرابع تمثل في بيانات عاصفة لأبرز قادة الأحزاب الشيعية وبينهم نوري المالكي الذي أطلق تصريحا بعد ختام لقائه بالسفير الإيراني ببغداد ناقدا موقف العبادي ومطالبا حكومته بالانحياز لإيران، وطالب بعض قادة الكتل والميليشيات بضرورة الوفاء لإيران وعدم الخضوع لسياسة واشنطن ضدها. وقد سخرت عصائب أهل الحق من موقف العبادي وقالت إن “مواقف هذه الحكومة المنتهية ولايتها لن تكون ملزمة للحكومة المقبلة”، فيما دعا عمار الحكيم كعادته في مواقفه الوسطية كلا من إيران وأميركا إلى عدم التصعيد والجلوس على طاولة الحوار.
الموقف الرسمي المعبر عن رأي الحكومة العراقية هو تصريحات حيدر العبادي، أما الأحزاب فإن مواقفها موجهة لجمهورها ولمسار تسويق مواقفها لطهران. العبادي ظهر في تصريحه وكأن قلبه مع إيران وعقله مع مصالح العراق، وقد حاول تبرير التزام حكومته بالعقوبات ببعض الأمثلة الواقعية والطبيعية، خصوصا في مسألة تعطيل التبادل التجاري مع إيران لأن الدولار الأميركي هو سيد التعامل العالمي، كما علق على مفهوم الانحياز نحو “المستضعفين” وهو تعبير عقائدي يقصد به إيران بقوله “شعبنا العراقي أيضا مستضعف فأنا لمن أنحاز لشعبي أو للآخرين”. ولعل هذه العبارات هي التي أغاظت رفاق دربه ففتحوا النار عليه وهو يعيش حالة ما بين التجديد لولاية ثانية أو الخروج من رهانها، وقد يصعب عليه الجلوس في مقاعد البرلمان مستقبلا وقد يفقد مكانته في حزب الدعوة.
العبادي كرئيس للحكومة لم يكن أمامه إلا التعبير عن موقف المنفذ للعقوبات الأميركية والمنحاز لمصالح بلده، ولكنه لم يوفق في طريقة التعاطي الإعلامي المدروس لهذه المسألة بسبب ضعف قدرات مستشاريه، كما أن حلقات التواصل بينه وبين وزارة الخارجية تبدو ضعيفة إلى درجة خلوها من التنسيق اليومي بالمواقف الدبلوماسية المعلنة، مما أظهر هذا التعارض والتباين الدبلوماسي. العبادي يعلم بحكم مسؤولياته بأن العقوبات التجارية الأميركية ضد إيران ليست مزحة أو مجرد تغريدات أطلقها ترامب على موقع تويتر، فهناك آليات لشبكات مالية دولية تقودها الولايات المتحدة في العالم من الصعب تجاهلها حتى وإن لم تصدر من مجلس الأمن الدولي، فانسيابية الأموال وحركتها في العالم تمرّان عبر القنوات البنكية الأميركية، ولهذا لم تتمكن الشركات الأوروبية من تعطيل قرارات تصفية نشاطاتها داخل إيران رغم المواقف السياسية لدول الاتحاد الأوروبي إلى جانب استمرارية الاتفاق النووي ومحاولة تعطيل العقوبات، لأن تلك الشركات تعلم سطوة القرار المالي الأميركي وخطورته عليها، وأعلنت شركات كبرى إيقاف استثماراتها تجنبا لأي عقوبات قد تطالها مثل “توتال” العملاقة في مجال النفط و”دايملر ورينوت” في مجال السيارات، وكذلك الشركات الخاصة بالشحن البحري وغيرها كثير.
ولهذا ستتعطل صناعة السيارات في إيران وسوقها في العراق الذي أغرقته بهذا المستوى الرديء من الصناعة التي يتندر حولها العراقيون لكنها مفروضة عليهم، وتقول الأرقام إن التبادل التجاري الإيراني العراقي وصل إلى 13 مليار دولار لصالح إيران. فالبضائع الإيرانية الرديئة من المواد الاستهلاكية والغذائية تغزو الأسواق العراقية. وتمنع منافستها من المنتوج العراقي خاصة في المنتوجات الزراعية التي تم تدميرها وتعطيل أي مشاريع إنتاجية استثمارية عراقية.
قد تؤدي هذه الإجراءات إلى تقليل مستويات الاستثمار السياحي الديني الذي تستفيد منه مجموعات مصالح من إيرانيين وعراقيين من أصول إيرانية في المراقد الدينية في كل من إيران والعراق، وقد وقع عدد كبير من المواطنين العراقيين في مصيدة فتح حسابات لهم في إيران وإجراء التحويلات بالعملة الإيرانية لكنهم سقطوا في فخ انهيار التومان الإيراني.
لا شك أن هناك صدمة كبيرة في الأوساط التجارية العراقية والإيرانية لكن قرارات منع التحويلات البنكية صارمة، وليس أمام الجهات الحكومية العراقية سوى الإذعان لالتزاماتها، وهذا ما عبر عنه رئيس الوزراء حيدر العبادي، لكن المواجهة ستكون بطرق وحيل كثيرة يتقنها التجار الإيرانيون. للإيرانيين نفس طويل في مواجهة هذه العقوبات، والعراق بالنسبة إليهم هو خط الدفاع الأول والأخير في هذا الميدان، ويعلم حكام طهران أن هذه العقوبات لا تتم مواجهتها عبر مواقف استهلاكية داخل مجالس رجال دين معممين أو غير معممين وساسة إسلاميين شيعة يحكمون اليوم في بغداد وطهران التي هي رغم كبريائها الذي صنعته في السنوات الأخيرة على حساب العراق وأهله، تحاول ترتيب سبل المواجهة وستزيد من ضغوطها على العراق من أجل الحصول على الدولار.
ولكن رغم العلاقة الحميمة التي تحتفظ بها الأحزاب الحاكمة في العراق تجاه طهران لا بد أن تبقى مصالح هذا البلد في المقدمة، ألم تقطع إيران الطاقة الكهربائية عن أهل البصرة في عز الصيف بسبب تأخير التسديدات المالية وقدرها 700 مليون دولار، وحين قدمت الكويت بعض المولدات الكهربائية المتنقلة ومادة “الغازويل” هدية لأهل البصرة تمت السخرية منها من قبل بعض سياسيي الأحزاب. ألم تقطع إيران روافد الأنهار وتحولها إلى داخل الأراضي الإيرانية، وتركت الملح يتدفق على أهل البصرة كالطاعون.
وكجزء من الحملة في وسائل الإعلام المحلية العراقية لدعم إيران تتم المقارنة ما بين العقوبات والحصار الجائر لإثني عشر سنة على العراق معززا بقرارات مجلس الأمن الدولي وبين ما تتعرض له إيران اليوم من عقوبات أميركية وهي مقارنة غير دقيقة. هل سيقع الضرر على العراق اليوم بعد فرض العقوبات الأميركية أم أن الأضرار واقعة عليه وعلى شعبه منذ عام 2003 ولحد الآن، فلماذا تلوم الأحزاب الموالية لإيران حيدر العبادي حين يقول “الأوْلى أن ننحاز إلى المستضعفين من شعبنا العراقي قبل الآخرين”.
معركة العقوبات الأميركية على إيران طويلة وانعكاساتها على العراق تشكل البدايات الأولى لخطوط التماس والتأثير، وهنا ستبرز المواقف المنحازة لمصالح العراق وسيادته واستقلاليته، أم الانحياز للآخرين.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews