مقاربة مختلفة نحو الوحدة الفلسطينية والنهوض الوطني الشامل
المرحلة الراهنة تفرض على جميع الأطراف مقاربة مختلفة لبلورة حل موضوعي ووطني لمعضلة احتمالية ومخاطر ازدواجية السلطة غير مقاربة "يا بتشيلوا يا بنشيل"، والتي لن تنقلنا سوى إلى تكريس الانقسام نحو الانفصال التام بين غزة والضفة.
يتم في هذه الأيام تداول تسريبات حول إمكانية توجه حماس لهدنة طويلة الأمد مع الاحتلال الإسرائيلي. لسان حال هذه التسريبات والمواقف وكأنه يقول “حاولنا مع السلطة ومش ماشية…”، كما أن لسان حال فتح سيقول “ألم نقل لكم…”، ولكن بماذا سينفع ذلك بعد خراب مالطا.
في الواقع أن حماس، ورغم الحروب الثلاث التي شنتها إسرائيل، كانت طوال الوقت، ومنذ استلامها الحكومة بعد انتخابات 2006 وبعدها السيطرة العسكرية على الحكم بعد ما عرف بالانقلاب أو ما تسميه هي بالحسم العسكري، ملتزمة بهدنة هشة ومجانية مع إسرائيل، وقد احتفظت الأخيرة لنفسها دوما باليد العليا في هذه الهدنة المحصورة في غزة، وفي الجهة المقابلة التزمت السلطة الوطنية طوال الوقت بما يعرف بالتنسيق الأمني، رغم تحلل إسرائيل من واجباتها والتزاماتها المتصلة بعدم دخول واجتياح المدن و“المناطق المسماة أ”، واحتفظت أيضا ومنذ 28 سبتمبر 2000 لنفسها بالحق في الاجتياح والاعتقال والمداهمات وخلال السنوات الأخيرة بالقتل دون مبرر على الحواجز، أي أن المعادلة القائمة في الضفة هي أيضا أكثر من هدنة مفتوحة ومجانية وهشة ولإسرائيل اليد العليا تماما فيها، ناهيك عن الأبعاد السياسية التي تحكم “كلا الهدنتين”.
السؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بأسباب انهيار مباحثات الوحدة وإنهاء الانقسام، والمتمثلة بما يمكن تعريفه التخوف من احتمالات ازدواجية السلطة في غزة، لا سيما في موضوع الأمن والسلاح، ومفهوم الشراكة الوطنية في تحمل المسؤولية وواجباتها.
وهنا تقفز إلى الذهن طبيعة التعامل من قبل الطرفين بوضع وتعميق العوائق للتغلب لا فقط على مخاطر ازدواجية السلطة، بل وازدواجية المعايير القائمة على التشدد الكبير في العلاقة البينية بين كل من حماس والسلطة وحركة فتح، والتراخي الأكبر في علاقة كل منهما في هذه القضية بالذات مع سلطة وحكومة الاحتلال. والتي وصلت حد “يا بتشيلوا يا بنشيل”، والتي تكثف مفهوم حسم وحدانية السلطة ومسؤولياتها وواجباتها الداخلية، دون التطرق إلى علاقتها بالاحتلال وطبيعة إدارة الصراع بما في ذلك أي هدنة نريد، وكيف يمكن وضع حد لمجانيتها واحتفاظ إسرائيل بتجزئتها والحصول على أرباح صافية ليس فقط أمنية بل وسياسية وفي مقدمتها تفتيت السياسة والجغرافيا الفلسطينية، بما يرسخ تفتيت الحقوق وتذويب الهوية الوطنية.
هنا لا بد من الإشارة إلى التناقض الذي يمارسه الطرفان؛ فحماس ما زالت غير جاهزة وغير مستعدة لتقديم تنازلات داخلية في هذا الملف رغم إشارات قيادتها إلى الاستعداد النظري لذلك تحت عناوين الشراكة في إدارة السلاح واستخدامه، أو إمكانية تحول قوتها العسكرية إلى نواة جيش وطني تحت قيادة منظمة التحرير، أي الشراكة التامة في القرار السياسي مقابل الأمني، على أهمية ذلك والذي يأتي في سياق محاولات إظهار الرغبة في إنهاء الانقسام، وربما في إطار التحولات التي ما زالت جارية وغير مكتملة ومفتوحة نحو جميع الاحتمالات إزاء متطلبات الانتقال من الانتماءات الإخوانية نحو الوطنية الفلسطينية. وقد يبدو ذلك محقا، إلى حين خروج حماس والإشارة إلى استعدادها لإجمال هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل.
ذات الشيء ينطبق على السلطة وحركة فتح التي تريد حسم ازدواجية السلطة بالسيطرة على السلاح تحت مسؤوليتها دون أن توضح كيف ستعمل على تغيير معادلات الهدنة المجانية والهشة في غزة وطبيعة التنسيق الأمني في الضفة الغربية. هذا بالإضافة إلى أن معادلة “يا بتشيلوا يا بنشيل” هي معادلة إقصائية تتناقض ليس فقط مع كل الاتفاقات الداخلية، بل وتتعارض مع متطلبات بناء الوحدة الوطنية في مؤسسات وطنية جامعة في إطار السلطة والمنظمة كوننا شعبا ما زال يرزح تحت الاحتلال وأمامه تحديات وطنية لمخططات التصفية الأميركية والإسرائيلية لحقوقه الوطنية التي أقرتها الشرعية الدولية، ناهيك عن الاعتقاد الخاطئ بأن أزمة حماس قد تدفعها إلى الانصياع نحو مثل هذه الشروط المستحيلة بالتسليم الكامل لمطلب السلطة هذا، ذلك كله بالإضافة إلى أن تلك المعادلة تحمل في طياتها دفع قطاع غزة بعيدا، الأمر الذي يشكل ضربة قاصمة للوطنية الفلسطينية وليس للمشروع الوطني فحسب.
أمام هذا الواقع المعرض للمزيد من التمزق فإن المطلوب اليوم هو العمل الوطني المخلص والجدي لصون وحماية شرعية الحقوق وتمكين الشعب وتعزيز قدرته علي الصمود الميداني والسياسي، والذي دونهما يصبح لا معنى أو لا قيمة لأي شرعية أو تمكين على صعيد المنظمة والسلطة.
إن المرحلة الراهنة تفرض على جميع الأطراف مقاربة مختلفة لبلورة حل وطني لمعضلة ازدواجية السلطة غير مقاربة “يا بتشيلوا يا بنشيل”، والتي لن تنقلنا سوى إلى تكريس الانقسام نحو الانفصال التام بين غزة والضفة، بما يعنيه ذلك من تدمير للمشروع الوطني، بل وتفتيت الوطنية الفلسطينية وحقوق شعبنا. هذه المقاربة تبدأ بمبدأ الشراكة الوطنية بديلا عن الازدواجية والإقصاء والانفراد والتفرد من أي جهة كانت.
إن هذا يتطلب، وفي ظل الإجماع المتكون حول أهمية المقاومة الشعبية بطابعها السلمي خاصة على حدود غزة كما هي، وإن كانت محدودة وموسمية في القدس وسائر أرجاء الضفة الغربية، ضرورة توفير الحاضنة السياسة لها وصون سلميتها من أي انحراف لفعالياتها نحو العنف أو التخلي الرسمي عنها أو التجيير الفئوي لإنجازاتها، والتقدم وفق هذه الاستراتيجية للبحث الوطني نحو مقاربة هدنة شاملة مسقوفة بزمن محدد وبمحددات ومطالب وشروط فلسطينية، جوهرها وضع حد لهشاشتها وليد إسرائيل العليا والطويلة فوقها، وبما يشمل رفع الحصار كليا عن قطاع غزة، ووقف كل أشكال السلوك العدواني ضد شعبنا وأرضه وممتلكاته ومقدساته في كل من القطاع والضفة بما فيها القدس الشرقية، والطلب من الشقيقة مصر والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة التحرك لرعاية هذا الجهد.
وفي نفس الوقت البدء بحوار وطني استراتيجي للبناء على هذه القاعدة لبلورة خطة وطنية ومبادرة سياسية مسنودة ببرنامج الإجماع الوطني لعام 1988 برنامج العودة وتقرير المصير وإقامة دولة فلسطين المستقلة على كامل حدود 1967، ومسنودة كذلك بتوفير متطلبات النهوض الشعبي على أساس المقاومة السلمية الشاملة وتوفير مقومات الصمود الميداني لها من خلال حكومة وحدة وطنية، والصمود السياسي عبر تكريس هذه الوحدة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، من خلال مجلس توحيدي جديد قبل نهاية هذا العام، وإلى حين ذلك من خلال إطار قيادي مؤقت يضم جميع القوى والتيارات والشخصيات المستقلة الفاعلة، وليس الديكورية الموالية واللاهثة وراء جانبي التخندق والمصالح الذاتية الضيقة.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews