تونس: صعود المستقيلين والمستقلين
استفادت القائمات المستقلة كثيرا من ثقل الأحزاب وتنظيمها البيروقراطي الرتيب، لتلج الفضاء الانتخابي التونسي من زاوية القرب الحقيقي من المواطن بلا أجندات أو حسابات.
إطلاق التعاليق والتحاليل السياسية على ظاهرة لم تكتمل جوانبها بعد، عملية غير آمنة إعلاميا أو علميا، إلا أن المؤشرات الكمية المتوافق على مصداقيتها يمكنُ أن تساعد الباحث على رصد التوجهات الكبرى والمقاربات العميقة في ما يخص الانتخابات البلدية في تونس.
لن نجانب الصواب إن اعتبرنا أن حقيقتين كبريين تهيمنان على المشهد السياسي التونسي. الأولى كامنة في ارتفاع نسب التغيب على التصويت بدرجة ملحوظة مقارنة بالاستحقاقات الانتخابية السابقة، والثانية متمثلة في صعود لافت للقائمات المستقلة والتي حازت على نسبة جد معتبرة تقارب الثلاثين بالمئة من جملة الخزان الانتخابي.
في العمق يستمد مؤشر التصويت للمستقلين شرعيته السياسية والاقتراعية من رحم مقولة العقاب الانتخابي للفاعلين السياسيين الكلاسيكيين، الذين يعتبرهم جزء معين من الرأي العام التونسي المسؤولين عن حالة التردي الاقتصادي وانسداد الآفاق الاجتماعية.
وفي العمق التحليلي أيضا، تأكيد بأن شكلا من أشكال الفاعلين السياسيين بدأ حاليا في الظهور في تونس، بمنأى عن القوالب الحزبية والتكتلات الائتلافية التي لم تنخرط معظمها في منظومة النقد الذاتي والمراجعة العميقة نحو تبيئة المقولات الكبرى، والتي لم تعمد بعد إلى تأصيل الشعار والبرنامج ضمن المحيط والفضاء المحلي.
استفادت القائمات المستقلة كثيرا من ثقل الأحزاب وتنظيمها البيروقراطي الرتيب، لتلج الفضاء الانتخابي التونسي من زاوية القرب الحقيقي من المواطن بلا أجندات أو حسابات، ومن نقطة العلاقة اليومية المباشرة التي تربط الناخب بالمترشح، وهي مقدمات سمحت للكثير من القائمات المستقلة باكتساح صناديق الاقتراع وبمزاحمة الأحزاب ذات الشعبية المعروفة على غرار النهضة والنداء.
صحيح أن الحديث عن القائمات المستقلة على أنها وحدة انتخابية صماء مجانب للصواب وللواقع أيضا، فالعديد من القائمات المستقلة هي في الحقيقة قوائم بديلة للأحزاب الكبرى، والكثير منها لا تخفي هواها السياسي والأيديولوجي، والأكثر من ذلك أنها لا تشكل قوة سياسية موحدة المقاربات ومتحدة التنظيمات.
ولكن الصحيح أيضا أنها تجسد اليوم البديل السياسي والانتخابي والمرحلي على الأقل، في هذه الفترة السياسية والاقتصادية الحرجة التي تمر بها تونس التي تعاني أزمة حقيقة وعميقة صلب عقدها الاجتماعي الرابط بين المواطن والفاعل الرسمي.
ولئن وجدت العديد من الأصوات في القائمات المستقلة البديل عن الأحزاب الكبرى، فإن جزءا آخر وهو الجزء الأكبر اختار مقاطعة الانتخابات برمتها أو بعبارة أدق اجتبى الحضور بالغياب، لأنّ ذات الناخبين الذين اختاروا مقعدا أمام التلفزيون أو أمام حواسيبهم، كانوا قبل 3 سنوات فقط يقفون طوابير طويلة للمشاركة في الاستحقاق الرئاسي والبرلماني وكانوا قبل 7 سنوات يبيتون ليلتهم أمام المركز الانتخابي للمساهمة في الانتخابات التأسيسية.
ولئن اصطفوا اليوم، الاستقالة والمقاطعة، فإن رسائل سياسية عميقة وذات مغزى يبرقونها من الصناديق الفارغة، لعل أهمّها أن انغماس الأحزاب في المحاصصة الضيقة، واستغراق الكثير من التيارات معالجة الانشقاقات والصراعات الداخلية عوضا عن مجابهة معركة كرامة المواطن والوطن، تدفع الكثير من الشباب إلى الاستقالة الطوعية من الشأن العام وسحب رصيد الثقة من الأحزاب والفاعلين السياسيين في البلاد.
انحسار الخزان الانتخابي في تونس، إلى المليون ونصف المليون مقترع في الاستحقاق البلدي، بعد أن كان تقريبا الضعف في كافة الاستحقاقات السابقة، يدل على أنّ ماكينة التصويت الأيديولوجي والديماغوجي أدت وظيفتها، وأنّ التصويت على المشروع بدأ ينسحب تدريجيا من المشهد السياسي، إلا إذا استثنينا التصويت للقائمات المستقلة.
بداية انهيار الثورات، تكون بفقدان الأمل الجماعي وعبر الانسحاب التدريجي من الشأن العام ومن المسؤولية المشتركة، ومن خلال تحوّل الشباب عن الفضاء المدني وعن المبادرة الحرة.
أمام الطبقة السياسية عمل كبير لاستحثاث الشباب والطبقة المتوسطة على العودة إلى الفضاء العام ولتسجيل حضورهم في الانتخابات القادمة الرئاسية منها والبرلمانية.
المصدر : العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews