مصر… حراك سلمي لا يتوقف
إزاء إلغاء الفضاء العام والحصار الممنهج المفروض على المجتمع المدني ومحدودية فاعلية الأحزاب السياسية إن المهادنة للحكم أو المعارضة له والتراجع البين في القدرات التنظيمية والجماهيرية لليمين الديني، بدت أوضاع مصر بين 2013 و2018 وكأن السلطوية الجديدة قد صارت في إخضاعها للمواطن والمجتمع وسيطرتها على مؤسسات الدولة دون منازع، وكأن فرص مقاومتها والضغط السلمي من أجل انتزاع شيء من حقوق وحريات الناس قد أضحت إلى الخيال أقرب.
وظفت السلطوية الجديدة أدواتها الإعلامية للترويج لقراءة الأوضاع المصرية على هذا النحو، ولسان حالها باتجاه المواطنين هو «لا جدوى للمواجهة، لا بديل عن الامتثال»! وأضافت أيضا تفسيرها التآمري البائس لثورة يناير 2011، ومرادفتها التحول الديمقراطي بهدم الدولة ونشر الفوضى وإلحاق البلاد بمصائر سوريا والعراق وليبيا. تدريجيا، وبفعل استمرار الانتهاكات والقمع والتعقب دون توقف، تملك الشعور بالإحباط وفقدان الأمل من المطالبين بالديمقراطية ومن المدافعين عن الحقوق والحريات واتجهت نظرتهم إلى الأوضاع المصرية أيضا إلى الدفع بغياب فرص المواجهة السلمية للسلطوية الجديدة وانتفاء القدرة على التغيير الإيجابي. حدث ذلك في سياقات إقليمية وعالمية أرادت بها القوى الفاعلة إغلاق ملف الانتفاضات الديمقراطية 2011، ونعتها بالفشل، وإعادة ترتيب أولويات بلاد العرب والشرق الأوسط لتأتي في الواجهة الحرب على الإرهاب وإدارة الصراع السني ـ الشيعي المتوهم والبحث عن مناطق نفوذ في دول وطنية منهارة (سوريا واليمن وليبيا) ودعم صعود وبقاء حكام أقوياء يعدون بالأمن والاستقرار ولا تعنيهم الديمقراطية من قريب أو بعيد. في مثل هذه السياقات الإقليمية والعالمية اكتسبت السلطوية الجديدة في مصر شرعيتها خارج الحدود، تلك الشرعية التي حققت منها قسطا داخليا باستعادة شيء من الأمن وبعض السياسات الاقتصادية والاجتماعية الناجعة.
غير أن الاستسلام لقراءة «لا جدوى للمواجهة، لا بديل عن الامتثال» فيما خص الأوضاع المصرية يتجاهل واقع الحراك المجتمعي ضد الممارسات القمعية للسلطوية الجديدة بين 2013 و2018. فقد تطورت مبادرات احتجاجية لتوثيق وكشف انتهاكات الحقوق والحريات المتراكمة، وضمت بين صفوفها طلاب وشباب ونشطاء وحقوقيين. غابت عن مبادرات مثل «الحرية للجدعان» الأطر التنظيمية المحددة، والتزمت كل منها بقضية واحدة فقط مثل جرائم الاختفاء القسري أو سلب حرية مواطنين بسبب القوانين القمعية كقانون التظاهر أو جرائم التعذيب داخل السجون وأماكن الاحتجاز، واستطاعت بنجاح مواجهة الإنكار الحكومي لحدوث انتهاكات للحقوق والحريات والتأسيس وإن بين قطاعات محدودة من المواطنين لوعي شعبي جديد بشأن ضرورة رفض القمع وإفلات المتورطين في الانتهاكات من المساءلة القانونية.
كذلك نشطت بين 2013 و2018 نقابات مهنية اشتبكت مع السلطوية الجديدة بشأن قضايا تتعلق بالدفاع عن استقلالها التنظيمي، وغل يد الأجهزة الأمنية عن العبث بداخلها، والانتصار لحقوق وحريات الأعضاء ومن بينها حرية اختيار ممثليهم والحماية من التعرض للتعقب والعقاب والتعبير العلني عن الرأي إن فيما خص القضايا النقابية أو القضايا العامة. وبرزت هنا نقابة الأطباء ونقابة الصحافيين اللتان اضطلعتا بأدوار حاسمة في مواجهة السلطوية، وفي المجمل مثل حراك النقابات المهنية استعادة لحيوية تلك المساحة الهامة الواقعة بين الحكم وبين المواطنين والتي كانت في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين في صدارة الدفاع عن حرية التعبير عن الرأي وحرية التنظيم في مواجهة سلطوية ما قبل كانون الثاني/يناير 2011.
وفيما خص الحراك الطلابي، لم تتمكن السلطوية الجديدة من الضبط الأمني للجامعات الحكومية والخاصة والقضاء التام على الحراك. استخدمت السلطوية كل ما في جعبتها من أدوات للقمع والتعقب ومن أدوات للحصار باسم القوانين واللوائح والإجراءات، بل واستعانت بشركات أمن خاصة للتواجد داخل حرم الجامعات ودفعت الإدارات الجامعية لإنزال عقوبات قاسية بالطلاب غير الممتثلين وسلبت حرية بعضهم وأحالتهم إلى المحاكم. على الرغم من ذلك، استمرت الجامعة حاضرة كمساحة رئيسية للمواجهة، بين 2013 و2015 تظاهرا واعتصاما وبين 2015 و2018 مشاركة كثيفة في انتخابات الاتحادات الطلابية لإنجاح مرشحين غير مرشحي الأجهزة الأمنية والاستخباراتية. هنا أيضا شكل الحراك الطلابي استعادة للمساحة الجامعية كمساحة لمنازعة السلطوية والتعبير المنظم عن معارضة سياساتها وممارساتها، وجدد في الوعي الشعبي للمصريين دور الجامعة والطلاب في الدعوة للتغيير الديمقراطي.
أخفقت السلطوية الجديدة أيضا في القضاء على الحراك العمالي الذي واصل تصدر المشهد الاحتجاجي بين 2013 و2018. لم يفلح المزج بين القمع والتعقب وبين إجراءات الترهيب المتراوحة بين الفصل التعسفي من مكان العمل وبين إحالة بعض العمال المحتجين إلى القضاء العسكري في إنهاء الاحتجاجات العمالية، وتواصلت الاحتجاجات باستخدام أدوات التظاهر والاعتصام والإضراب للمطالبة بحقوق اقتصادية واجتماعية معرفة جيدا، وامتدت خريطة الاحتجاجات العمالية لتشمل القطاعين العام والخاص ولتجمع بين العمال وبين موظفي الخدمة المدنية (موظفو بيروقراطية الدولة والأجهزة الحكومية).
كما تكرر خروج بعض المواطنات والمواطنين إلى المساحات العامة للاحتجاج على قرارات وإجراءات وممارسات حكومية بعينها كتورط عناصر أمنية في تعذيب وقتل مصريين داخل أماكن الاحتجاز الشرطي أو للاعتراض العلني على سياسات حكومية. بالقطع، حاولت السلطوية الجديدة أن تدير أمنيا المبادرات الاحتجاجية والحراك النقابي والطلابي والعمالي مستخدمة تارة لأدوات القمع المباشر وتارة أخرى لأدواتها القانونية المصاغة لتهجير المواطن ولإغلاق الفضاء العام. بين 2013 و2018، استعادت السلطوية ماضي الحصار الأمني للنقابات المهنية وللحركات الطلابية والعمالية وأضافت لقوائم المسلوبة مواطنين خرجوا عفويا وسلميا إلى الشارع لمعارضة قرارات وممارسات حكومية. تكررت أيضا مشاهد ما قبل كانون الثاني/يناير 2011 مثل «التفخيخ الأمني» للنقابات المهنية التي عارضت مجالس إدارتها المنتخبة السياسات الرسمية، و«الاصطناع الأمني» للصراعات بين المجالس المنتخبة وبين أعضاء في النقابات عرف عنهم التبعية للحكم وللأجهزة الأمنية، و«الأطواق الشرطية» المحيطة بمقار النقابات وبالمصانع التي تحدث بها تظاهرات أو اعتصامات أو إضرابات، والإحالة السريعة للنشطاء العماليين والمواطنين المشاركين في الاحتجاجات إلى عمليات تقاضي (إن أمام القضاء المدني ـ الطبيعي أو أمام القضاء العسكري). على الرغم من كل هذا القمع الممنهج، وجدت السلطوية الجديدة صعوبات حقيقية في السيطرة الكاملة على الحراك المجتمعي وبدت من ثم في مأزق سياسي يتناقض من جهة مع سيطرتها المطلقة على المساحات الإعلامية التقليدية وإغلاقها للفضاء العام وحصارها للمجتمع المدني وتسفيهها للمساحات الرسمية لممارسة السياسة وللأحزاب السياسية ومرشح من جهة أخرى للاستمرار في الفترة القادمة.
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews