علاقة شيخوخة المجتمعات بالتضخم
تعد النظرة الاقتصادية التقليدية التضخم ظاهرة نقدية، حيث تتسبب السياسات النقدية غير الموفقة في رفعه ويمكنها السيطرة عليه من خلال السياسات الناجعة. في المقابل استنتج عديد من الباحثين ومراكز الأبحاث من خلال بيانات الدول المتقدمة أن هناك علاقة بين التركيبة العمرية السكانية واتجاهات التضخم طويلة الأجل، حيث يمكن تفسير جزء كبير من التضخم من خلال التركيبة العمرية السكانية. ولكن الباحثين ينقسمون إلى عدة مدارس في هذا الشأن، فالبعض يرى أن التضخم يرتفع مع زيادة نسب الشباب وكبار السن الذين يميلون إلى الاستهلاك أكثر من الادخار، وتنخفض مع زيادة نسب الشريحة السكانية العاملة التي تميل إلى الادخار أكثر من الإنفاق. ويفوت هؤلاء أن أنماط استهلاك الشباب تختلف عن أنماط استهلاك كبار السن، حيث قد يلجأ الشباب إلى الاقتراض لزيادة الاستهلاك على أمل نمو دخولهم المستقبلية، بينما يتحفظ كبار السن في رفع استهلاكهم، نظرا لاعتماد معظمهم على دخول شبه ثابتة. من جهة أخرى يعتقد باحثون آخرون أن الشباب يفضلون رؤية معدلات التضخم ترتفع لميلهم للاقتراض وارتفاع معدلات التضخم يصب في مصلحتهم مخفضا، أعباء قروضهم التي تتضاءل مع ارتفاعه، بينما يميل كبار السن إلى تفضيل معدلات تضخم منخفضة للحفاظ على مدخراتهم من التآكل.
نشر أخيرا، أحد مراكز الأبحاث والدراسات الاقتصادية بحثا، تؤيد بياناته وجود علاقة سلبية بين شيخوخة المجتمعات ومعدلات التضخم. ويذكر القائمون على هذا البحث أن نحو نصف فروقات التضخم بين دول منظومة التعاون والتنمية التي خضعت للدراسة يمكن تبريرها بنسب شيخوخة السكان. وإذا ثبتت هذه العلاقة، فإن هذا يعني ترجيح عرقلة شيخوخة المجتمعات من فرص الخروج من دائرة معدلات التضخم المنخفض التي تسود عددا من دول العالم المتقدم في الوقت الحالي. ويتنامى مع مرور الوقت أعداد كبار السن فوق 65 سنة ومشاركتهم المرتفعة في الأنشطة السياسية، ما يقوي تأثيرهم على السياسات العامة وصناع القرارات ويرجح تبني السياسات والأنظمة، التي تخدم مصالحهم، حيث تفضل الغالبية منهم سياسات كبح معدلات التضخم. ومن المعروف أن التضخم يتسبب في تآكل القيم الحقيقية لمدخرات كبار السن، لهذا كان من أوليات هذه الشريحة السكانية ومؤسسات التقاعد التي ترعاهم المحافظة على قيم مدخراتهم من التلاشي وتعظيم العائد عليها. وتحاول الشرائح السكانية العاملة وخصوصا، في المراحل التي تسبق التقاعد ادخار أجزاء أكبر من دخولها لإنفاقها في المراحل المتأخرة من حياتهم أو لتوفير بعض الموارد لمن خلفهم من ذرية وأزواج. وترفع هذه الشرائح مدخراتها، لأنها أكثر نضجا، في استهلاكها وأكثر تجنبا، لأخذ مخاطر الاستثمار. وقد يتسبب هذا في ضعف نمو الطلب الكلي لفترات زمنية طويلة، ما يضعف الضغوط على الأسعار، بل وقد يتسبب في إحداث التضخم الصفري، الذي يقلل من جدوى وتأثير السياسات النقدية. وتقود زيادة معدلات الشيخوخة إلى تراجع نسب الشريحة السكانية العاملة الذي يزامن مع انخفاض معدلات التضخم في الدول المتقدمة.
تؤكد توقعات الأمم المتحدة أن المجتمعات حول العالم تتجه للشيخوخة، ولهذا يبدو أن معدلات التضخم المنخفضة ستستمر لعقود قادمة. وكلما ارتفعت نسب كبار السن ارتفع تأثيرها على السياسات الاقتصادية وارتفعت تكاليف منافعهم والرعاية بهم، سواء بارتفاع التحويلات، أو تكاليف الرعاية الصحية التي تقلل من الموارد الموجهة للاستثمار. وترى دراسة لصندوق النقد الدولي أن هناك تأثيرا واضحا، لشيخوخة السكان على معدلات التضخم السلبي في اليابان، وتوضح الدراسة أن اليابان تقف على قائمة الدول، التي تؤثر فيها نسبة كبار السن في معدلات التضخم سلبا.
وعانت اليابان لسنوات طويلة ماضية من معدلات تضخم منخفض وسلبي في بعض الأحيان، كما عانت تراجعا في الإنتاجية. وتبرر هذه المصادر أن ارتفاع معدلات الادخار وانخفاض معدلات الاستثمار يقودان إلى معدلات فائدة محايدة تفشل السياسة النقدية وتعجزها عن تنشيط الاقتصاد إلى مستويات التوظيف الكامل.
إذا صح تأثير شيخوخة السكان السلبية على معدلات التضخم طويلة الأجل فإن هذا يسترعي إدراك المصارف المركزية وصناع القرارات لأهمية اعتبار هذا المتغير وضرورة إجراء بعض التعديلات على سياساتها النقدية والسياسات الأخرى للسيطرة على اتجاهات وآثار التضخم طويلة الأجل. ويسهل التعرف على التركيبة السكانية المستقبلية وإجراء التعديلات اللازمة على السياسات النقدية وغير النقدية للتحكم في معدلات التضخم وآثاره ومنعها من التأرجح بسبب هيكل السكان العمري.
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews