القدس تحكى حكايتها !

مازلنا مع القدس وهى تحكى لنا جانباً من تاريخها الحافل كما صوره لنا الدكتور قاسم عبده قاسم فى عمله البديع: «القدس.. تاريخ وهوية حضارية».. تقول القدس: «فى زمن المسيح عليه السلام ازداد ارتباطى بجبل الزيتون الذى ولدت إلى جواره، ففى الجهة الشرقية يتطلع أهلى إلى الشمس، وهى تلقى أشعتها الذهبية كل صباح على ذلك الجبل الجميل الذى يكتسى ثوباً بديعاً من خضرة أشجار الزيتون الذى أعطته اسمه، ولايزال الجبل حتى اليوم يحمل ثمانى أشجار زيتون يزيد عمرها على ألفى عام، كان السيد المسيح يحتمى بظلالها هو والحواريون الذين حملوا تعاليمه، ومع تزايد المؤمنين بالمسيحية كان من طبيعة الأمور أن أصبح مدينة مقدسة بالنسبة لهم لأنى صرت أضم بين جنباتى كنيسة القيامة، وعدداً آخر من الكنائس والأديرة المهمة التى انتشرت هنا وهناك فى جوارى، وهكذا صرت مقصداً ومزاراً لكل الذين آمنوا بالمسيح ورسالته من كل أنحاء الدنيا على الرغم من أنهم انقسموا إلى مذاهب مختلفة.. 

وعشت حياة هادئة فى ظل تحول الحكام الرومان أنفسهم إلى المسيحية، ولكن الحرب بين الروم (البيزنطيين) والفرس سببت لى متاعب كثيرة.. وما بين الغزو الفارسى والاسترداد الرومى عرفت الخوف والرعب من جديد، فقد كانت بلاد الشام وفلسطين تمثل المجال الحيوى الذى تتنافس فيه القوتان العظميان فى ذلك الزمان!..

ومرت الأيام ثقيلة مؤلمة إلى أن تناهت إلى مسامعى أخبار مثيرة عن نبى يبشر بدين جديد، هو الدين الإسلامى، وهزم الروم على أيدى المؤمنين بهذا الدين، وخرج الإمبراطور هرقل كسير النفس من بلاد الشام وهو يقول: (وداعا يا سوريا.. وداعاً لا لقاء بعده).. وفرحت كثيراً لأنى أعرف أن هذا النبى قد زارنى ذات ليلة فى رحلة إعجازية، هى رحلة الإسراء، وزادت الفرحة عندما عرفت أننى كنت قبلة المسلمين الأولى فى صلاتهم، قبل أن يأمرهم الله بأن تكون مكة المكرمة هى قبلتهم، ومع توالى انتصارات المسلمين سمعت أن (صفرونيوس) البطريرك الرومى طلب أن يسلمنى إلى الخليفة العظيم عمر بن الخطاب نفسه، فجاء الخليفة بنفسه من بلاد الحجاز إلى فلسطين على ظهر ناقته الحمراء، يشق الصحراء فى رحلة امتدت حوالى ألف كيلومتر لا يحمل معه سوى جراب من التمر، وقربة من الماء، وخرج (صفرونيوس) فى ثيابه الفخمة المزركشة للقاء الخليفة، لكنه امتلأ بالدهشة والذهول وهو يرى أمامه رجلا يتسم بالبساطة والتواضع، خالياً تماماً من تلك الملامح التى تعلو فى المعتاد وجوه المنتصرين، ودعاه للصلاة فى كنيسة القيامة، لكن الخليفة اعتذر فى لطف، وقال إن المسيحيين أولى بكنيستهم، وإنه يخشى أن يصلى بها، فيتخذها المسلمون من بعده مسجداً لهم، وكان فى هذا ملتزماً بتعاليم دينه التى تعترف بالآخر من حيث وجوده نفسه، ومن حيث حريته الدينية، ومن حيث مسؤولية المسلمين بالدفاع عن الذين يؤمنون بديانات أخرى فى دار الإسلام!!..

وهذا كله تم إثباته فى شروط التسليم التى عرفت بالشروط العمرية، وقد كانت تلك الحادثة التاريخية الفذة، بداية انتشار الإسلام بين أهلى المقادسة.. حيث اعتنق الإسلام عدد من اليهود وعدد من النصارى.. ومع مرور الوقت صار المسلمون هم الأغلبية، وبذلك اكتسبتُ ملامح إسلامية إلى جانب ملامحى المسيحية الظاهرة، وعاش فى رحابى المسلمون والمسيحيون واليهود الذين كان البيزنطيون قد حرموا عليهم دخولى زمناً طويلاً، ومنذ ذلك الزمان حملت اسم القدس أو بيت المقدس».

المصري اليوم 2018-03-11