Date : 19,04,2024, Time : 07:45:34 AM
2739 : عدد القراء حاليا
حالة الطقس
°C
Amman,Jordan
13
اليوم
العليا 22° الدنيا 12°
غداً
العليا 18° الدنيا 12°
أرسل خبر
آخر تحديث: الاثنين 29 ربيع الأول 1439هـ - 18 ديسمبر 2017م 12:31 ص

خريف أمريكا في مصر

خريف أمريكا في مصر
عبد الحليم قنديل

قد نختلف إلى أبعد حد مع اختيارات اقتصادية وسياسية واجتماعية داخلية حاكمة، لكن وطنيا مصريا لا ينازع في شيء جوهري، هو نزوع الحكم إلى استعادة استقلال مصر الوطني، والعودة لدور عربي يليق، بطريقة براغماتية نعم، وعلى نحو تدريجي بطيء حذر، لكن المحصلة تتراكم بصورة ظاهرة، وتفكك قيود احتلال أمريكا لقرارنا السياسي والاقتصادي والعسكري، وهو الاحتلال الذي دام واتصل فوق أربعة عقود.
ومن زيارة ريتشارد نيكسون إلى زيارة مايك بينس، يلحظ المراقب جوهر ما جرى ويجري، وانقلاب المزاج المصري تجاه واشنطن، كان نيكسون أواسط السبعينيات يواجه أزمة داخلية عاصفة، وكانت فضيحة «ووترغيت» تطيح برئاسته، لكن عين واشنطن، ووزير خارجيتها الأشهر اليهودي هنري كيسنجر، كانت على مصر، وعلى فرص انتزاعها من اختيارات عبد الناصر، وكسبها كقاعدة نفوذ كبرى في المنطقة، وهو ما لقي حماسا جنونيا وقتها عند الرئيس السادات، الذي نظم استقبالا جماهيريا حافلا مفتعلا لنيكسون، وصور زيارته كأنها يوم الفتح، ومفتاح دخول الشعب المصري إلى الجنة الأمريكية، ثم جرى ما نعرفه عبر أربعين سنة وأكثر، وانقلبت الأحوال بصورة دراماتيكية، وصار المصريون ينظرون إلى مايك بينس، نائب الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، ووريثه المحتمل في البيت الأبيض، بعد عزل ترامب الوارد بسبب فضائح التجسس، وزيارته إلى القاهرة، كأنها الجرب الذي يفر منه الناس. ويرفض شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب لقاءه، ويتبعه البابا تواضروس رأس الكنيسة الوطنية، في موقف تاريخي جليل، يخطف أبصار المصريين ووجدانهم، ويترك بينس وحيدا معزولا في مراسم رسمية باردة.
وفي الحالتين، كانت إسرائيل حاضرة، كان كيسنجر يخطط لربط مصر بإسرائيل، ونزعها من دورها القيادي في أمتها العربية، وتفريغ نصر أكتوبر 1973 من مضامينه الوطنية، وجعل مصر خصما لقضية الشعب الفلسطيني، وهو السياق نفسه الذي جاء فيه بينس، وهو كرئيسه ترامب أكثر صهيونية من كيسنجر، مع فارق الوعي عند بينس، والجهالة السوقية عند ترامب، ما دفع إدارتهما إلى اتخاذ قرار ناسف، يطبق قرار الكونغرس القديم بإعلان القدس المحتلة عاصمة أبدية موحدة لكيان الاغتصاب الإسرائيلي.
ورب ضارة نافعة، فقد كان القرار هو القشة التي قصمت ظهر بعير «صفقة القرن»، التي روجت لها ترهات ترامب، وبدا أن القاهرة الرسمية تحتفل بها، وتشارك في التجهيز لها، لكنها في لحظة الجد، تبددت غبارا، وسقطت الصفقة بالضربة القاضية، وصار الموقف الأمريكي مطاردا منبوذا، وزاد في حرج القاهرة الرسمية التي شعرت بأنها خدعت بوعود فارغة، وأن «المتغطي بالأمريكان عريان»، وأن العلاقات مع أمريكا صارت عبئا ثقيلا، تخففت منه ما استطاعت في الأربع سنوات الأخيرة، ولم يبق منه سوى ظلال باهتة وأزمة مستديمة، تشبه جمود طلعة مايك بينس الضيف الثقيل في وقت أثقل.
وقد لا نكون في حاجة لاستعادة ما جرى بتفاصيله، فقد كانت سنوات ازدهار العلاقات المصرية الأمريكية، هي نفسها سنوات انهيار مصر، وكان الوجود الأمريكي في مصر قرينا لكل تدهور، ولكل انحطاط في دور مصر، فقد أعطى السادات 99% من أوراق اللعبة لأمريكا، وجعلها خلفه المخلوع مبارك مئة بالمئة، إلى أن صارت القاهرة صفرا على الشمال، وصدى ضائعا لا صوتا ناطقا، وصارت قراراتها في المنطقة مجرد ترجمة من الانكليزية إلى العربية لقرارات واشنطن، وانتهت مصر إلى عجز فادح في التأثير بتطورات المنطقة، وهو ما تطور إلى عجز أفدح في صياغة مصائرها نفسها، وسقطنا في شراك خديعة كامب ديفيد، وما تلاها من ربط الاختيارات الداخلية بشروط المعونة الأمريكية، وكان في القصة تكرار لمغزى ما جرى قبل قرابة قرن ونصفف قرن من سريان معاهدة السلام المشؤومة، حين أرغمت مصر على القبول بمعاهدة لندن 1840، التي أنهت عصر نهضة محمد علي، وهو ما أريد لكامب ديفيد وتوابعها أن تفعله بمصر المعاصرة، أي إنهاء عصر نهوض عبد الناصر، ووضع مصر مجددا في الأسر، ومع تغيير طفيف في اللافتات، أحل دور أمريكا محل دور بريطانيا القديم، واستبدل دور السفير الامريكي بدور المندوب السامي البريطاني، وجعل اختيارات الاقتصاد والسياسة فروعا من أصول السياسة الأمريكية، وحطم إنتاجية ومصانع الاقتصاد المصري، بانقتاح «السداح مداح» وصولا إلى الخصخصة و»المصمصة»، وترك مصر دائما على حافة غرق، فلا هي تنجو ولا هي تنطق الشهادتين، تحتاج دائما إلى النجدة ومراكمة الديون، ويجري نهب مواردها على نحو غير مسبوق، ويضطر غالب بنيها إلى الهروب من مأساتها، بالهجرة في الجغرافيا بحثا عن الرزق الشحيح، أو الهجرة إلى التاريخ بظاهرة العودة الدينية اليائسة من دنيا أفضل، وتضخيم دور اليمين الديني التابع لأتباع أمريكا في الخليج، وهندسة طبقة جديدة مسيطرة على اقتصاد نهب و»شفط»، ترتبط بالهوى الأمريكي الإسرائيلي، وتكون لها الكلمة الفصل في صياغة المصائر، وعلى نحو ماىكان يجري من تهيئة لتوريث جمال مبارك رمز جماعة البيزنس والتطبيع، مع إضعاف الجيش المصري بانتظام، بالتحكم في تسليحه «الأمريكاني» غالبا، وتوسيع الفجوة بين قدراته وقدرات جيش كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وإجهاض حلم مصر في المعرفة النووية، رغم أن مصر بدأت الشوط النووي مبكرا، ومنذ تأسيس «لجنة الطاقة الذرية» في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين.
ومع قدوم أمريكا للاستيلاء على القرار المصري، جرى محو هدف بناء محطة نووية، في منتصف السبعينيات، ثم في منتصف الثمانينيات، ثم في منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، إلى أن قامت الثورة الشعبية في 25 يناير 2011 وموجتها الكبرى التالية في 30 يونيو 2013، بعدها توالت مظاهر اهتزاز وتراجع دور أمريكا في مصر، إلى أن صرنا اليوم في قلب خريف دور أمريكا في مصر، وربما يكون الشروع في بناء محطة الضبعة النووية بالتعاون مع روسيا سقوطا لورقة خريف كبرى من شجرة أمريكا في مصر.
وربما لا يكون التاريخ يعيد نفسه، لكن حوادثه الكبرى تتشابه في مغزاها، خصوصا في بلد راسخ التكوين كمصر، تلاحقت عليه وفيه النكسات والنهضات الدورية، وله قانونه الذي لا يخطئ أبدا، فكلما تراجعت مصر وراء حدودها الجغرافية، فقدت دورها الذي لا قيامة لها بدونه، ثم انتهت إلى الضعف والذبول، إلى أن تتهيأ الظروف لنهوض جديد، تعود لتمسك به قرارها الوطني، وتصوغ دورها من جديد، كمثال موح في أمتها العربية، وفي سياق توازنات عالم متغير بطبائع الأمور، وهو ما يفسر انطباعا عبّر عنه الرئيس السيسي بتلقائية عفوية عقب زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخيرة إلى القاهرة، التي جرى فيها إطلاق إشارة البدء في بناء محطة الضبعة النووية، فقد ربط السيسي بين مشروع السد العالي ومشروع الضبعة النووي، واعتبرهما علامتين بارزتين على جدية وحيوية التعاون المصري الروسي.
ولم تكن مصادفة، أن بيئة السياسة التي قادت إلى مشروع الضبعة، تتشابه في الكثير من ملامحها مع ما جرى لمصر وفيها أواسط خمسينيات القرن العشرين، فقد جرى وقتها كسر احتكار التسليح الغربي للجيش المصري، والاتجاه إلى تنويع مصادر السلاح، وزيادة الاعتماد على التسليح الروسي في العهد السوفييتي، وهو ما زاد توثقا عقب هزيمة 1967، وإعادة بناء الجيش، وصولا إلى انتصارنا في أكتوبر 1973، وفي يدنا السلاح الروسي، وهو ما جرى مثله في الأربع سنوات الأخيرة، فقد كسرت مصر اعتمادها شبه الكلي على التسليح الأمريكي، وطورت سياسة متكاملة في تنويع مصادر السلاح، وفي القفز بمستويات التصنيع العسكري الذاتي، وفي تقدم الجيش المصري إلى المكانة الأولى بالمنطقة كلها، وفي بناء علاقة سلاح متزايدة الأثر، تضمنت صفقات استراتيجية عظمى، تبني لمصر حائط صواريخ هي الأحدث والأكفأ في الدنيا كلها، وتكاد تشبه في مغزاها حائط الصواريخ الشهير الممهد لعبورنا في حرب 1973، وإن كان العمل هذه المرة دفاعيا بحتا، يتحسب لاحتمالات انزلاق المنطقة كلها إلى حروب واردة، يكون فيها دفاعنا الجوي صلب الدرع الواقي، وسلاحنا الجوي والبحري هو أداة الاقتحام، وهذه صورة مختلفة تماما للجيش المصري الذي يخوض في سيناء حرب التحرير الثانية، وإن بدا العدو في صورة جماعات إرهاب حليفة موضوعيا لإسرائيل، استثمرت خلاء غالب سيناء من السلاح المصري بقيود ملاحق المعاهدة المشؤومة، وهو ما يحدث عكسه بالضبط الآن، فقد أنهى الجيش المصري عار نزع السلاح في سيناء، وعادت قواته بكثافة إلى خط الحدود التاريخية مع فلسطين المحتلة، وتزايدت كثافة الاهتمام المصري بالقضية الفلسطينية، وبعلاقات «العروة الوثقى» مع كافة فصائل الشعب الفلسطيني، وهو ما يزعج إسرائيل، ويثير حنق واشنطن، التي حاولت عقاب مصر بخفض المعونة، وتقييد تسليحها للجيش المصري، وانفتاح شهيتها إلى ممارسة ضغوط إضافية على مصر، لا يبدو أنها تجدي نفعا لواشنطن، فقد اتخذت مصر قرارها، وتبدو مصممة أكثر من أي وقت مضى، وراغبة في إنهاء زمن الاحتلال الأمريكي للقرار المصري.

القدس العربي  2017-12-18




مواضيع ساخنة اخرى

استـ خبارات روسيا: النـ اتو هو من يقود الهجـ مات المضادة وليس الجيش الأوكـ راني
استـ خبارات روسيا: النـ اتو هو من يقود الهجـ مات المضادة وليس الجيش الأوكـ راني
شاهد تركيا يقـ تل حماه بالرصـ اص ثم يـ صرع طليقته في وضح النهار
شاهد تركيا يقـ تل حماه بالرصـ اص ثم يـ صرع طليقته في وضح النهار
إيطاليا تقهر هولندا وتخطف برونزية دوري الأمم
إيطاليا تقهر هولندا وتخطف برونزية دوري الأمم
السعودية: الثلاثاء 27 حزيران وقفة عرفة والأربعاء عيد الأضحى
السعودية: الثلاثاء 27 حزيران وقفة عرفة والأربعاء عيد الأضحى
رسميا.. أول مرشح يعلن خوض انتخابات الرئاسة في مصر
رسميا.. أول مرشح يعلن خوض انتخابات الرئاسة في مصر
واشنطن : إصابة 22 عسكريا في حادث تعرضت له هليكوبتر بشمال شرق سوريا
واشنطن : إصابة 22 عسكريا في حادث تعرضت له هليكوبتر بشمال شرق سوريا
هنا الزاهد تصدم جمهورها بصورة لها قبل عمليات التجميل!
هنا الزاهد تصدم جمهورها بصورة لها قبل عمليات التجميل!
جديد صاحبة الفيديو المشين لطفليها.. تورط ابنها وزوجها الثاني في المصر
جديد صاحبة الفيديو المشين لطفليها.. تورط ابنها وزوجها الثاني في المصر
سماع دوي انفجار في العاصمة الأمريكية واشنطن (فيديو)
سماع دوي انفجار في العاصمة الأمريكية واشنطن (فيديو)
البنتاغون يندد بتصرفات الصين "الخطرة" في آسيا
البنتاغون يندد بتصرفات الصين "الخطرة" في آسيا
78 زعيما دوليا يشاركون في مراسم تنصيب أردوغان السبت
78 زعيما دوليا يشاركون في مراسم تنصيب أردوغان السبت
أوغندا تقر قانونا يجرم المثلية الجنسية وبايدن غاضب ويهدد بقطع المساعدات
أوغندا تقر قانونا يجرم المثلية الجنسية وبايدن غاضب ويهدد بقطع المساعدات
لبنان.. اختطاف مواطن سعودي في بيروت
لبنان.. اختطاف مواطن سعودي في بيروت
السودان.. اشتباكات كثيفة في الخرطوم قبيل انتهاء الهدنة
السودان.. اشتباكات كثيفة في الخرطوم قبيل انتهاء الهدنة
رغم انتصاره الكبير في باخموت.. قائد فاغنر يحذر من تبعات خطير
رغم انتصاره الكبير في باخموت.. قائد فاغنر يحذر من تبعات خطير
الضفة: إصابات بينها برصاص الاحتلال وهجوم للمستوطنين على فلسطينيين
الضفة: إصابات بينها برصاص الاحتلال وهجوم للمستوطنين على فلسطينيين
  • لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
مواضيع شبيهة
يمكنك أيضا قراءة X


اقرأ المزيد