احتضار التستر التجاري

تسابقت أخيرا الأنباء المبشرة بقرب القضاء على إحدى أخطر الآفات الاقتصادية لدينا، المتمثلة في التستر التجاري الذي يستوطن قطاع التجزئة كأكثر القطاعات احتضانا له. يليه في المرتبة الثانية قطاع المقاولات. يليهما في انتشاره بنسب أقل ومختلفة بقية القطاعات الأخرى، كقطاعات بيع الفواكه والخضار والسلع الزراعية، والمتاجرة بالذهب والأحجار الكريمة، وتجارة المواشي، وتجارة السلع المعمرة، وقطاع الخدمات كالدعاية والإعلان، وقطاع الإلكترونيات والأجهزة الكهربائية، وتسويق وبيع برامج الحاسب الآلي ونسخها بصور غير مشروعة، وفي أنشطة المحال التجارية الصغيرة والمتوسطة كمحال الحلاقة والسباكة والصيانة الكهربائية والخياطة وغيرها من الأنشطة التجارية الفردية، التي لا تتطلب مهارات عالية. وكانت وزارة التجارة والاستثمار قد أعلنت في مطلع العام الجاري اكتشافها نحو 200 ألف حالة تستر، 86 ألف حالة منها في قطاع المقاولات، ونحو 84 ألف حالة في قطاع التجزئة فقط، ما يشير إلى استشراء التستر والضرورة القصوى لمواجهته بأقوى الأدوات والإجراءات.

تضمن الخبر الأول؛ انتهاء منظومة التجارة والاستثمار من خطة إلزام المحال والمنشآت التجارية بإخضاع تعاملاتها التجارية لنقاط البيع، وبدء تطبيق العمل بها قبل نهاية العام الجاري. ستبدأ أولا بإلزام المحال والمنشآت الكبيرة مثل مراكز التسوق وغيرها في مرحلتها الأولى، ثم الانتقال إلى المراحل الأخرى كالمحال والمنشآت المتوسطة والصغيرة في المملكة. وبين تصريح الخبر، أن الهدف من إلزام المحال والمنشآت بنقاط البيع ينصب على القضاء على التستر التجاري أو الحد منه بنسبة كبيرة. جاء الخبر الثاني مؤيدا للأول على نطاق أوسع؛ صادرا من هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة، عن قرب الإعلان عن خطة حكومية لمحاصرة الاقتصاد الخفي والتستر التجاري في المنشآت الصغيرة في تشرين الأول (أكتوبر) القادم، بعد الحصول على الموافقات النهائية اللازمة لها من الجهات العليا.

شكَّل "التستر التجاري" إحدى أخطر الآفات التي أصابت اقتصادنا الوطني بالكثير والخطير من الآثار السلبية، شكَّل اتساعه وتعمقه كاقتصاد ظل واحدا من أكبر التحديات الاقتصادية المحلية طوال أكثر من عقدين من الزمن، بل لقد وصفته أدبيات الاقتصاد المعاصر بسرطان الاقتصادات، الذي استمد ويستمد حياته من نهش خيرات وموارد أي اقتصاد يستوطنه، ممتصا عافيته إلى أبعد حدود في غياب أو ضعف أدوات الرقابة والسيطرة عليه، وتحت ترهل السياسات الاقتصادية واهتراء الإجراءات المحاربة لمختلف نشاطاته.

اختلفت التقديرات حول حجمه ونسبته للاقتصاد الوطني، نظرا لعدم وجود رصد رسمي دقيقٍ له، إلا أن دراسة ومتابعة عديد من المؤشرات الاقتصادية والمالية، أتاحت نوعا ما فرصة تقدير حجم أنشطة التستر التجاري، ومن تلك المؤشرات الدالة على وجوده ارتفاع نمو الاستهلاك السنوي للكهرباء والمياه مقارنة بمعدل النمو الحقيقي للاقتصاد تتجاوز الضعفين، وهو ما أظهرته متوسطات معدلات النمو خلال الفترة 2009ــ2016، حيث بلغ متوسط النمو السنوي لاستهلاك المياه 11.0 في المائة، وبلغ للاستهلاك الصناعي والتجاري للكهرباء للفترة نفسها نحو 8.8 في المائة "الاستهلاك الصناعي 4.2 في المائة، الاستهلاك التجاري 15.8 في المائة"، فيما لم يتجاوز متوسط النمو الحقيقي للاقتصاد خلال الفترة نفسها سقف 5.3 في المائة.

أيضا من أهم مؤشراته الدالة على وجوده وتوسع نشاطاته؛ ارتفاع حجم النقد المتداول خارج المصارف التجارية، ويعد لافتا إذا ما أخذت بعين الاعتبار درجة التقدم الكبيرة التي طرأت على أنظمة المدفوعات المحلية، إضافة إلى زيادة الثقة بالتعامل بالشيكات. ويكتسب هذا المؤشر أهميته لما تتصف به تعاملات نشاطات اقتصاد الظل "التستر التجاري" في الغالب من اعتمادها الكبير على التعامل بالنقد "الكاش" مقارنةً ببقية التعاملات عبر القنوات المصرفية الحديثة، ووفقا لبيانات مؤسسة النقد وصل النقد خارج المصارف بنهاية 2016 إلى نحو 200 مليار ريال "85.2 في المائة من النقد المتداول خارج مؤسسة النقد العربي السعودي"، وعلى الرغم من نمو عدد أجهزة نقاط البيع بمتوسط سنوي خلال الفترة 2009ــ2016 بلغت نسبته 33.5 في المائة "276.2 ألف نقطة بيع"، إلا أنه يحسن كثيرا من الاعتماد على تلك الأجهزة للدفع، ولم يقلص حجم "الكاش" في الأسواق المحلية.

وتكشف أيضا مقارنة الحوالات السنوية للعمالة الوافدة بحجم أجورها السنوية، أجزاء بالغة الأهمية حول حجم اقتصاد الظل "التستر التجاري"، إذ يبين حجم تلك الحوالات للفترة 2010ــ2016 أن حجمها فاق كثيرا أحجام الأجور السنوية المدفوعة للعمالة الوافدة، ووصلت مضاعفاتها إلى 1.5 ضعف! في حين أن المقارنة بعد خصم المصروفات المقدرة للاستهلاك المحلي من أجور العمالة الوافدة، على افتراض أنها تشكل في المتوسط نحو 40 في المائة من إجمالي الأجور السنوية، فإن الفروقات "الزيادة بالحوالات" ستزداد دون شك إلى أكثر من ضعف حجم الأموال القابلة للتحويل إلى الخارج، ما يشير إلى وجود مصادر أخرى لتلك الأموال المحولة للخارج، يظل التستر التجاري هو المتهم الأول خلف تلك الزيادات الهائلة للحوالات.

إن تقدير مثل تلك الزيادات للحوالات السنوية مقابل صافي الأجور السنوية، وتوقع أنها قد لا تتجاوز 15 في المائة من حجم النشاطات السنوية للتستر التجاري الخفي، يعني بدوره أن حجم نشاط التستر التجاري في بلادنا قد يصل إلى نحو 530 مليار ريال "نحو 22 في المائة الناتج المحلي الإجمالي، وأعلى من 30 في المائة الناتج المحلي غير النفطي"، وهي أرقام بالغة الخطورة حتى مع الأخذ في الاعتبار أن الأرقام الفعلية قد تزيد أو تنقص عن هذا الرقم التقديري بما لا يتجاوز 10 في المائة.

يرتقي تطلع الجميع تحت مظلة الإجراءات الأخيرة، التي يرتقب بدء تطبيقها قبل نهاية العام الجاري، إلى أن يتم القضاء بأكبر قدر ممكن على أشكال التستر التجاري، الذي وقف ويقف خلف عديد من الآثار والتشوهات التالية:

(1) حرمان مقدرات الاقتصاد الوطني من إيجاد الوظائف للمواطنين، وتسببها في زيادة معدلات البطالة.

(2) زيادة التسرب الاقتصادي والمالي للخارج، عدا أنها تعتبر من أخطر مهددات معايير الجودة، ومستوى الإنتاجية داخل الاقتصاد، ومن ثم إضعاف النمو الاقتصادي وزعزعة مستويات التنمية.

(3) تفاقم دورها الأشد ضررا تجاه محاربة رؤوس الأموال الوطنية وتحديدا الصغيرة والمتوسطة منها، وتضييق الخناق على المدخرات الوطنية، وتقليص الفرص والمجالات الاستثمارية المتاحة والمطلوبة لتتحول إلى استثمارات يتم توظيفها في خدمة الاقتصاد والوطن.

(4) زيادة معدلات الفقر بين أفراد المجتمع بسبب انعدام التوظيف.

(5) زيادة نشاطات اقتصاد الظل "عمليات التستر التجاري" وما يتبعها بالضرورة من تفاقم أشكال الغش والتدليس، وامتداد أخطارها الكبيرة إلى ما يهدد مختلف جوانب الصحة والبيئة.

(6) هذا عدا آثاره الاجتماعية الأخرى السلبية، حينما تتحقق الآثار الاقتصادية والمالية السلبية السالفة الذكر، فلا شك أنه يتبعها كثير من الآثار السلبية اجتماعيا! فماذا سيتبع انعدام فرص الاستثمار، وفرص العمل، التي ستسهم في رفع مستوى دخل المواطن؟! إلا أن تتسع دوائر البطالة والفقر، وما يتبعهما من أخطار أمنية واجتماعية لا يعلم آثارها المدمرة إلا الله. وللحديث بقية، والله ولي التوفيق.

الاقتصادية    2017-09-19