عرضنا في المقال السابق لما يمكن أن نقول عنه: إنه عرض موجز بليغ عن وضع البصرة الاقتصادي، وأهمية النهضة به، والذي تقدم به الأحنف بن قيس لعمر بن الخطاب رضي الله عنه. ونركز في هذا المقال على وصف الأحنف للبصرة بما ملخصه بلغة العصر: "أنها فقيرة في الموارد" حيث قال عنها: "إن أهل البصرة نزلوا في أرض سَبَخة نشاشة" والسبخة: الأرض المالحة فلا تكاد تنبت. والنشاشة: تمتص الماء ولا ينبت مرعاها. ولذلك أعقب الأحنف هذا الوصف بأن قال: لا يجف ترابها ولا ينبت مرعاها. ثم قدم وصفاً دقيقاً عن موقع البصرة، وهو يريد أثره الاقتصادي فقال: طرفها في بحر أجاج وطرف في فلاة. فالبصرة على وصف الأحنف هذا ما بين بحر لا يستعذب ماؤه، وصحراء لا زرع فيها ولا شجر. ولكننا نعرف أن البصرة أنشأها المسلمون إبان خلافة عمر عام 14هـ فلماذا اختاروا هذا الموقع؟ الواقع أن اختيار عمر رضي الله عنه لموقع البصرة هذا كان منصباً على أن تكون مركزاً عسكرياً يتخذ قاعدة للهجوم، ومنه يتزود المقاتلون بالسلاح ويرجعون إليها للاستجمام، مثل:" الفسطاط، والقيروان، والكوفة " وكان عمر مهتماً بأن لا يفصل بينه وبين المسلمين ماء، وأن يكون الموقع على حافة البادية التي تلائم الحياة البدوية. وبما أنها على البحر فقد كانت أيضاً معسكراً يراقب تحركات السفن، فيمكن أن نقول: إنها قاعدة عسكرية أكثر من كونها مركزاً حضرياً في بداية الأمر. لكن هذا الواقع لم يستمر، فبحكم موقع البصرة على مقربة من شط العرب، فقد كان لها دور في التجارة البحرية بين العراق من جهة، وجنوب شرق آسيا وفارس من جهة أخرى، وما إن حل القرن الثاني الهجري حتى أصبحت من الأمصار الإسلامية التي هاجر إليها الكثير وتوسع عمرانها، بحيث يكتب بعضهم: "كان موقع البصرة بالقرب من الخليج مهيئاً دائماً لأن ينزلها كثيرون من الإفريقيين والهنود".

وفي المقال القادم سنركز على آراء الأحنف للنهوض باقتصاد البصرة، والتي قد تتفق مع نظريات في الاقتصاد الحديث.

الرياض    2017-09-17