عالم مجنون… على كفَّي «عفريتين»
تصاعدت نبرة التهديدات المتبادلة بين كوريا الشمالية والولايات/الدول المتحدة الامريكية، «الى درجة غير مسبوقة منذ عقود»، خلال الاسابيع القليلة الماضية، كما لاحظ ذلك الامين العام للأمم المتحدة، في تصريح له قبل ايام.
كان يمكن لنا التعامل مع هذه التطورات بهدوء، بل وحتى بلا مبالاة ايضا، لبُعد المسافة الفاصلة بين شرقنا الاوسط، وكلٍّ من بؤرتي التوتر: العاصمة الكورية الشمالية، بيونغ يانغ؛ والعاصمة الامريكية، واشنطن. لكننا محرومون من الهدوء واللامبالاة لاسباب عديدة، لعلّ اهمها:
ـ أن من يُشغلان الموقع الأول، في كل واحدة من العاصمتين، لا يثيران الثقة بقدراتهما على التصرف بحكمة، بسبب ما رشح عنهما، حتى الآن على الأقل، من (عدم) قراءة للتاريخ، او من قراءة منتقاة للتاريخ القديم والمتوسط والحديث، وبسبب ما يبدو عليهما من استهتار بمستقبل البشرية، [راجع ملف إخراج الرئيس الامريكي، دونالد ترامب لبلاده/قارته من اتفاقية باريس بخصوص البيئة، والتأثير السلبي لذلك على كوكب الارض بكامله، وكذلك مجمل تصرفاته في التعيينات والإقالات بالجملة، اضافة إلى «التغريدات» المضحكة المبكية، اضافة إلى موقفه الاخير من وضع متظاهري اليسار والليبراليين على مستوى اليمين العنصري والـ»كوكلكس كلان؛ ومقابل ذلك إعدام الرئيس الكوري الشمالي، كيم جونغ اون، لأحد اعمامه بقذيفة مدفع مضاد للطيران، والحاق ذلك باغتيال شقيقه بحقنه بالسم]، وبما يمكن ان تذكره كتب التاريخ عنهما في المستقبل. هذا إذا بقي على الارض مستقبل، ومن يكتب ومن يقرأ.
ـ ان مجمل التطورات العلمية الحديثة ألغت معنى المسافات، وجعلت كل كوكبنا مجرد قرية صغيرة واحدة، يشاهد ويسمع كلُّ واحد فيها، كلَّ حدث وتطور لحظة وقوعه.
ـ ان القدرات التدميرية للاسلحة الحديثة المتوفرة التي نعرفها، مهولة إلى درجة يصعب تصورها، ناهيك عن اسلحة ربما تكون متوفرة، ولم نسمع عنها بعد.
هذا الواقع الذي نعيشه هذه الايام، مع وجود العناوين الثلاثة: قائدان معتوهان يَصعُب توقعهما، إن لم يكن ذلك مستحيلا؛ وتقلص كامل الكرة الارضية وتحولها الى»قرية صغيرة»؛ وامتلاك «اسلحة دمار شامل»، تجعل مرحلة انتظارنا وصول المفترق القريب، مرحلة قلق لا سابق له. فأي من المسارب سيسلكه هذان الرئيسان؟ او حتى احدهما منفردا ايضا، ويجر الثاني اليه؟
ليست هذه هي المرة الاولى التي يقترب فيها عالمنا إلى مفترق خطير. حصل ذلك من قبل مرات عديدة، وخاصة في مرحلة الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بقيادة امريكا، والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، ولعل اهمها «مفترق» خليج الخنازير، عندما ثبّت الاتحاد السوفييتي صواريخ تحمل رؤوسا نووية في كوبا، وموجهة إلى مدن ومواقع امريكية، عام 1962.
الا ان عالم اليوم، ليس مثل عالم الامس، ولا عالم امس الاول ايضا. في تلك الحقبة كان في العالم قادة يقرأون التاريخ، ويصنعون التاريخ، ويحترمون التاريخ، ويحرصون على المستقبل. كان في العالم نيكيتا خروتشوف وجون كنيدي. كان شارل ديغول، وجمال عبد الناصر، وجوزيف بروز تيتو، وجواهر لال نهرو، بل وفيديل كاسترو، وباتريس لومومبا، واحمد سيكوتوري، وليوبولد سنغور، وجوليوس نيريري، وياسر عرفات. وكان مع هؤلاء وطليعتهم ماو تسي تونغ، وشو إن لاي، وهو شي مِنّه. وسبق هؤلاء ونستون تشيرشل، ودوايت آيزنهاور، وهاري ترومان، وفرانكلين روزفلت، وفلاديمير لينين، وجوزيف ستالين، بل وادولف هتلر، ودافيد بن غوريون ايضا، وعشرات آخرون.
كان للبشر في ذلك الزمان اسباب كثيرة للقلق، لكن كانت لهم هناك اسباب اكثر للاطمئنان والنوم بهدوء. وليس على صعيد السياسة فقط. فعصر فن ام كلثوم وعبد الحليم حافظ، وفرانك سيناترا، وجان بول سارتر، وبابلو بيكاسو، بل ومحمد علي كلاي،: من الفكر إلى الرياضة والفن بانواعه. كان عالما آخر.
لكن المفارقة الاكبر، بين زماننا وزمان مضى، هي ان العلوم والتكنولوجيا قفزت إلى الامام قفزات مذهلة وجبارة وغير مسبوقة، إلى درجة حولت فيها كتب وافلام الخيال العلمي الجامح إلى قصص وروايات وافلام متوقعة وممكنة التحول إلى واقع ملموس، في حين ان السياسة، وعلى صعيد العالم اجمع، انزلقت وما زالت تنزلق من درك إلى درك اسفل.
صعود غير مسبوق في العلوم والتكنولوجيا، وانحدار في السياسة والقيادات السياسية، لا هذا مسبوق في سرعته وعلو مستواه ووتيرته واستمراره، ولا ذلك مسبوق في ركاكته وانحداره واستمرار هبوطه. وما يجعل الامر اكثر خطورة بما لا يقاس، هو حجم الدمار الذي يمكن للاسلحة الحديثة احداثه، وتوفرها بوفرة حد التخمة، بيد وتحت سيطرة هؤلاء القادة المشكوك في قدراتهم على التصرف بحكمة.
ينتقل عالم هذه الايام من مرحلة «حرب باردة» جديدة، (حتى وان لم يقر البعض بانفجارها بعد)، إلى «حرب فاترة» تنذر بتحولها إلى «حرب ساخنة»، دون وجود ضابط او ضباط إطفاء يقظين وقادرين على اعطاء الناس اسبابا مقنعة للنوم بهدوء.
قضايا عصرنا بشكل عام، وايامنا الحالية بشكل خاص، اكثر صعوبة وتعقيدا وتشابكا من كل ما سبقها من قضايا، ويتولى مسؤولية معالجتها والتعاطي معها وحلها، قادة عالم اليوم الذين يفتقرون إلى قدرات اخلاقية ومعرفية، كما كان عليه الوضع مقارنة باسلافهم.
قد لا نكون مبالغين إذا قلنا ان حجم الإشكالات في عالمنا هذه الايام، مع ما تحمله من مخاطر ودمار على مستوى الكرة الارضية وما عليها، ليست بحاجة إلى قادة قادرين فقط، بل هي حاجة إلى «نبي» او حتى «عدة انبياء» لحلحلتها ومنع انفجارها.
ننزل من هذه القمة إلى السفح الذي نقيم فيه، ونسأل: ماذا عن فلسطين؟. هي ايضا بحاجة إلى «نبي»، في حين انها تفتقر إلى قائد بقدرات معقولة، ولا وجود لهذا القائد عند قمتها، ولا علامات على توفره عند سفوحها، على تعدد هذه السفوح، وعلى تعدد الصراعات العبثية بين «قبائلها» وابطالها.
هل من المستغرب، بعد عرض هذه الصورة الشاملة لعالمنا، كما اراها على الاقل، ان انتهي إلى القول:
«أيها البشر..، تحية وبعد، يؤسفني إبلاغكم ان الغالبية العظمى من قادتكم معتوهون»…
القدس العربي 2017-08-18
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews