قد يكون السؤال "ما التحدي الاقتصادي الأقوى القادم؟" واحدا في العدد؛ إنما تتعدد وتختلف الإجابات عنه حسبما قد يراه المسؤول وفقا لموقعه الوظيفي، أو رجل الأعمال وفقا للنشاط الذي يعمل فيه، أو المهتم بالشأن الاقتصادي والمالي وفقا لخبرته ومجال اهتمامه، أو المواطن وفقا لما يعايشه يوميا من تحديات معيشية.
فما قد يراه المسؤول، أنه التحدي الأقوى حسبما يقف عليه من مسؤوليات ومهام، يعني أيضا أن الإجابة ستختلف من مسؤول إلى آخر! وكذلك الحال بالنسبة لبقية الأطراف رجال أعمال ومهتمين ومواطنين. لن تجد اتفاقا تاما على إجابة بعينها أو تحد بعينه، وليس هذا موقع الإشكال، وإن ظهر بادئ الأمر أنه كذلك. ذلك أن تحديد بعض السمات الرئيسة، الواجب توافرها في أي تحد اقتصادي، كي يصل إلى مرتبة متقدمة تمنحه عن جدارة واستحقاق عنوان "التحدي القادم الأقوى"، أؤكد أن تحديد بعض تلك السمات المقبولة لدى الأطراف كافة، كفيل بأن يخرج الجميع من دائرة الخلاف حول الإجابة.
من تلك السمات على سبيل المثال لا الحصر:
(1) نطاق الآثار السلبية المترتبة على وجود ذلك التحدي الاقتصادي، الذي كلما اتسعت دائرته، اقترب إلى كونه فعلا تحديا قويا قادما.
(2) أيضا نسبة مساهمة هذا التحدي في نشوء تحديات أخرى مختلفة "اقتصادية، اجتماعية... إلخ"، فكلما ارتفعت هذه النسبة، لا شك أنها تدفع به درجة أعلى في سلم الترتيب، وتكمن أهمية هذه السمة في كونها تحدث فرزا جوهريا لكثير من التحديات الاقتصادية الراهنة، قد تجد أثقلها وزنا مختبئا خلف عديد من التحديات، فلو تم التركيز والقضاء عليه، لنتج عن ذلك القضاء بسهولة بالغة على بقية التحديات. والعكس صحيح؛ قد تهدر كثيرا من الجهود والأموال للقضاء على مختلف تلك التحديات اللاحقة، أو الناتجة في الأصل عن التحدي المختبئ خلفها، الذي لم تدركه في سياق جهودك الحثيثة، فلا تتجاوز عندئذ نتائج تلك الجهود والأموال المبذولة، إلا مزيدا من تفاقم التحديات وانعكاساتها القاسية.
(3) أيضا من أهم السمات الواجب أخذها في الاعتبار؛ حجم التكاليف أو الخسائر التي سيترتب عليها وجود مثل هذا التحدي أو غيره، فكلما ارتفعت تلك التكاليف، دفعت به للأعلى في سلم الترتيب، ولا تتركز التكاليف أو الخسائر المقصودة هنا على الجانب المالي فحسب، رغم أهميته، بل يتسع المجال ليشمل أي تكاليف اجتماعية أو نفسية أو أمنية أو أي أبعاد أخرى مختلفة الاتجاهات. هنا ستختلف المعايير أيما اختلاف! فما قد تراه كآثار مادية فادحة في شأن اقتصادي معين، قد لا تراه يذكر مقارنة بشأن اقتصادي آثاره المادية أقل بكثير، إنما قد يفوق الأول خطرا بكل المقاييس إذا ما رصدت آثاره الاجتماعية والأمنية ــ على سبيل المثال، وكم من الأشخاص قد تغير تقييمهم للأمور ونظرتهم إليها، بمجرد أن فتح الله على بصائرهم رؤية المتغيرات والقضايا الحياتية، وفق هذا المنظور الأشمل والأوسع.
قد يكون السؤال هنا صعبا بعدما تقدم؛ إلا أنه بكل تأكيد سيكون أسهل بكثير من تحديد الإجابة عنه! بل إن الأصعب من كل ذلك هو إيجاد الحل السليم والأمثل لمواجهة هذا التحدي، والخروج من وعثائه بأقل التكاليف أو الخسائر. الأمر الآخر؛ أن منهجية كتلك التي ذكرت أعلاه، لتحديد ما التحدي الاقتصادي الأقوى القادم، قد تؤدي إلى وجود عديد من التحديات لا مجرد تحد واحد! وليكن الأمر كذلك؛ فأهمية الموضوع أو القضية هنا بمعنى أدق، تنصب على تحديد أي تحديات اقتصادية نواجهها، لا لمجرد التعرف عليها، والوقوف أمامها موقف المتفرج، أو المنتظر أن تحل من نفسها دون جهد يذكر، بل إن الهدف الرئيس من كل هذا، يبدأ ويقوم وينتهي إلى الضرورة القصوى لمواجهتها ومعالجتها، والتصدي التام والحازم لها بكل ما أوتينا من قدرات وموارد وخيارات ما زالت متاحة بأيدينا.
قد أكون استرسلت فيما تقدم كمقدمة، إلا إنها كانت ضرورية جدا، قياسا على أهمية ما سيأتي في هذا الجزء من مقالات قادمة بدءا من هذا المقال، حول أبرز التحديات الاقتصادية التي نواجهها اليوم، ويتوقع أن تتعاظم قوتها مستقبلا. لقد قطعنا شوطا مهما جدا خلال العامين الأخيرين، تحولت خلاله رؤى وطروحات استغرقت ما يقارب ثلاثة عقود من الزمن أو أكثر، تمحورت حول كثير من تحدياتنا الاقتصادية والتنموية بوجه عام، أؤكد أن تلك الرؤى تحولت خلال العامين الأخيرين إلى "رؤية شاملة"، ومشروع عملي واضح المعالم لأجل مواجهة مختلف التحديات، وتجاوزها وفق جدول زمني محدد المراحل والأهداف والبرامج، ممثلا في المشروع التنموي العملاق "رؤية المملكة 2030".
إن خروج تلك "الرؤية" الشاملة الطموحة للوجود، لا يعني أن نهاية طريق أربعة أو خمسة عقود مضت من التنمية الشاملة، تحقق من أهدافها ما تحقق، وتأخر أو فشل إنجاز بعضها الآخر! بل إنها تمثل التهيئة المثلى قبل بدء خوض الطريق الطويل، التي قد تتطلب هي أيضا متابعة ومراجعة لنتائجها، وتقويما متى تطلب الأمر ذلك، وهو الأمر الذي لا يقلل إطلاقا من أهميتها، بقدر ما أنه يضيف إلى قوتها، ويزيدها مناعة، ويمنحها ديناميكية أكثر، وهو أمر تقليدي اتصفت به جميع السياسات والبرامج التي أسستها بقية الأمم، وعملت على مناهجها لعدة عقود، كونها أولا وآخرا جهدا لعقول بشرية، أنتجتها وصممتها بناء على ما توافر لديها من متغيرات ومعطيات، لم يمنعها لاحقا مراجعتها وتحسينها، كون تلك الخطط والبرامج وسيلة لا هدفا بعينه، للوصول إلى حياة أفضل للمجتمع والوطن.
كل هذا يعني بالضرورة القصوى ارتفاع مسؤولية الجميع دون استثناء لأحد أو طرف، تجاه حراك شامل واسع النطاق لبلادنا نحو المستقبل، يقتضي مساهمة كل فرد منا بجهده ووقته وموارده وإمكاناته في إنجاح هذا المسعى الوطني النبيل، وإدراك أن الطموح أكبر من مجرد تنويع قاعدة الإنتاج المحلية وتخفيف الاعتماد على النفط كمورد رئيس للدخل، ومن مجرد تجاوز البطالة والفقر والإسكان ومحاربة الاحتكار والفساد بكل أشكالهما، وإصلاح مختلف السلبيات الهيكلية في الاقتصاد الوطني، على الرغم مما تحمله مختلف تلك التحديات من آثار ثقيلة الوزن، إلى أبعد من كل ذلك وصولا إلى موقع حضاري أفضل، يقتضي تحققه لنا بمشيئة الله تعالى بكل تأكيد تجاوز تلك التحديات الجسيمة، وفي الوقت ذاته تحديد أفضل السياسات اللازم العمل بها. وإلى الملتقى قريبا لمتابعة الحديث حول ماهية وآليات مواجهة تلك التحديات القادمة الأقوى، التي تتطلب تحديدا دقيقا لها، وتخصيصا كافيا للموارد والجهود اللازمة لأجل تجاوزها. والله ولي التوفيق.
الاقتصادية 2017-08-10