الفعل الروسي في النظام السياسي الأميركي
تزداد القرائن على أن الروس أوقعوا اضطرابا في قلب النظام السياسي الأميركي. فكلما هدأ الحديث عن تدخل موسكو في الانتخابات الأميركية، يعود مرة أخرى، بزخم جديد وبحكاية صادمة.
ويصح القول إن الأمور، بالمعيار التاريخي، قد انقلبت، بعد أن انطوى زمن الرؤساء الأميركيين الكبار الثقـال في الولايات المتحدة، وتفاقمت معضلة الخفة والحماقة في الرؤساء الجدد، وانفلتت ضوابط الاختيار للسباق الرئاسي في الحزبين الكبيرين، ما جعل الضرر الذي لحق بالنظـام السياسي الأميركي، أكبر بكثير من الخسارة التي مُنيت بها موسكو بانهيار الاتحاد السوفييتي، ذلك الانهيار الذي حـدث بمفاعيل أميركية.
وإن كان لمخيلة روائية أن تصف المشهد الراهن، سنصبح كأنما نشاهد الآن ثأرا روسيا أو رد اعتبار، جوابا على الأفعال الأميركية التي احتدمت ضد الاتحاد السوفييتي في عقد الثمانينات.
في تاريخ الولايات المتحدة المعاصر، لم تكن ثمة حكاية تتضاءل فيها الرئاسة الأميركية أمام صحيفة مهما كان تأثيرها؛ باستثناء تلك المناسبة التي وقف فيها جيمي كارتر في العام 1977 ضعيفا أمام “واشنطن بوست” يرجوها ألا تنشر الوثيقة التي حصلت عليها، وفيها أسماء رؤساء وملوك ومسؤولين في العالم، تقاضوا منذ العام 1957 رواتب منتظمة من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
فقد اجتمع الرئيس كارتر مع مجلس إدارة “واشنطن بوست” وفاوضهم وشرح لهم كيف سيؤثر نشر الوثيقة سلبا على السياسة الخارجية الأميركية ويضرب صدقيتها. يومها، انفضّ الاجتماع دون أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق. وفي اليوم التالي ظهرت الوثيقة، التي كان لبعض حكام العرب نصيب من فضيحتها.
الآن، وفي زمن طغيان الإعلام الرقمي، فعلت “نيويورك تايمز” ما يوازي الذي فعلته “واشنطن بوست” في مرحلة مجد الصحف الورقية. فقد أعطت الأولى لابن الرئيس دونالد ترامب مهلة بتوقيت معلوم، إن لم ينفذ ما تطلبه وهي أن يعترف بخيانة القانون، فإنها ستقوم بنشر ما لديها عنه وعن أبيه بالمحصلة.
وكان من تداعيات الموقف، أن الكونغرس استدعى الابن للشهادة أمام اللجان المنوط بها التحقيق في علاقة حملة ترامب الانتخابية بالروس. إن هذه الواقعة وحدها، تتشكل من مجموعة عناصر مستجدة، لم تعرفها الولايات المتحدة بهذا الشكل من قبل، وهي كثافة الانخراط العائلي في العمل السياسي مع الرئيس، وخطورة الروس على منظومة المعلومات الأميركية، واستقواء صحيفة على الرئاسة بهذه الحدة، وخفة الموقف الأدبي لأسرة الرئيس، أمام الكونغرس.
في أثناء الحملة الانتخابية للرئيس ترامب، عقد ابنه اجتماعا مع محامية روسية، وكان الوسيط محررا أو كاتبا بريطانيا صديقا لترامب الأب، وثيق الصلة باليمين الأميركي، وهو ذو اختصاص يتعلق بسباقات انتخاب ملكات الجمال، ما يفتح مجالا للتندر على الوساطة وعن الصديق والاختصاص والصداقة.
كان ذلك البريطاني، واسمه روب غولدستون، قد أرسل لنجل ترامب رسائل إلكترونية يطلب فيها موعدا مع محامية روسية تقول إن في جعبتها أسرارا من شأنها الإضرار بحملة هيلاري كلينتون مرشحة الحزب الديمقراطي. وقال الوسيط للشاب بوضوح، إن المحامية الروسية تتطوع بتقديم المعلومات لدونالد ترامب، من منطلق دعم الحكومة الروسية لحملته الانتخابية. وبالفعل اجتمع الشاب ترامب الابن بالمحامية الروسية في أحد أبراج أبيه، وحضر معه زوج أخته ومستشار ترامب الحالي غاريد كوشنر، ومعهما رئيس حملة ترامب عندئذ، بول مانافورت.
الآن، وعندما رمت “نيويورك تايمز” طرف الخبر، لم ينكره ترامب الابن، لكنه أنكر السبب وكذب وعلل اللقاء بسبب لن يخطر على بال أسرة ترامب أو أي أسرة تخوض حتى انتخابات بلدية أو نقابية، وهو أن الاجتماع بالمحامية حدث لمناقشة اقتراح بأن يتبنى الأميركيون برنامجا لمساعدة أطفال روس، توقفت حكومة موسكو عن تبنيه، بجريرة الضائقة الناتجة عن العقوبات المفروضة على روسيا الاتحادية.
عندئذ، وبسبب تلاعب الفتى، صعّدت “نيويورك تايمز” من موقفها وأبلغت ترامب الابن بأنها تعطيه مهلة محددة لكي يعترف بالحقيقة، وإلا فإنها ستنشر مقتطفات من الرسائل الإلكترونية.
ولم يجد الفتى حلا سوى أن ينشر الرسائل بنفسه، قبل بضعة دقائق من انتهاء المهلة، ليتبدى واضحا، أن الولد كان على علم بأن المحامية مندوبة للحكومة الروسية، وهذه مخالفة صارخة للقانون الأميركي الذي يحظر على المتنافسين في أي انتخابات، السماح لأي دولة أجنبية بالتدخل للإضرار بطرف لصالح طرف آخر.
ردة الفعل الحادة، كانت في الحزب الجمهوري نفسه، لأن انكشاف موقف مرشحه وهو يتقبل تدخلا من دولة أجنبية أو من روسيا تحديدا، يضر بالحزب ويجدد غضب قواعده الاجتماعية عليه وعلى خياراته.
لقد أصبح الحزب الجمهوري الأميركي، بسبب ترامب، يتلقى الضربات الواحدة تلو الأخرى، وقد تراجعت حماسة صقور الحزب في الكونغرس، لأجندة حزبهم التشريعية، متأثرين بتوالي التحقيقات التي تطال الإدارة، ومتأثرين أيضا بتغريدات الرئيس على تويتر.
وفي كل يوم، تأخذ الأمور منحى أصعب. فأصبح هدف التحقيقات هو الإجابة عن سؤال: هل تدخل الروس وحسموا نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية؟ وهل كان هناك تنسيق ممنهج بين حملة ترامب الانتخابية وموسكو، فجاء ذلك النصر الفجائي لترامب على النحو الذي خالف كل التوقعات؟ لكن صعوبة التحقيقات تكمن في كون القانون لا يمنع لقاء ابن ترامب بمحامية أجنبية، لكنه قطعا يمنع أن تكون الحيثيات تتعلق بمساندة روسيا لمرشح دون آخر، وهذا هو ما أكدت عليه وثائق صحيفة “نيويورك تايمز”.
في ذلك السياق، كان لنائب الرئيس ترامب، مايك بنس، موقف يضيف إلى جديد النظام السياسي الأميركي بؤسا آخر. فقد نأى الرجل بنفسه عن هذه المزالق كلها، بل نأى بنفسه عن دونالد ترامب وعن الحملة الانتخابية التي أوصلتهما معا إلى البيت الأبيض، وخرج ببيان يقـول فيه إن لقاء الفتى ترامب الابـن مع المحامية الروسية، كان قبل انضمامه أصلا إلى حملة ترامب الأب.
إن هذا الجانب من تردي حال النظام السياسي الأميركي، وما فيه من تعارضات بين مؤسستي الخارجية والدفاع من جانب والإدارة والرئيس من جانب آخر، يؤشر على أن الروس نجحوا في إيقاع الاضطراب الكبير في هذا النظام!
العرب اللندنية 2017-07-19
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews