أفول نفوذ بريطانيا في أوروبا والعالم ... بعد عام على البريكزيت
جي بي سي نيوز :- تبدو المملكة المتحدة اليوم، بعد عام على استفتاء الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، بريكزيت، وكأنها قصر متداع. وأفدح الأضرار نزلت بسياساتها المحلية. وفي وقت يجبه حزب المحافظين أزمة، يعلو صوت جيريمي كوربين، الزعيم اليساري المتطرف على رأس حزب العمال، وكلامه يدور على وشك انتخابه رئيساً للوزراء في الأشهر الستة المقبلة. ولكن الحق يقال لم تقتصر الأضرار على الداخل البريطاني. فمكانة بريطانيا الدولية هبطت اليوم الى أدنى مراتبها على نحو ما كانت عليه في أزمة السويس في 1956، حين أطاحت أميركا سعي رئيس الوزراء البريطاني الى استعراض قوة بريطانيا في مصر، وترسيخها.
واستندت السياسة الخارجية البريطانية طوال عقود الى ثلاثة أركان: الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والعالم النامي. وصاغ وينستون شرشل، وهو ابن ارستقراطي بريطاني من أميركية كانت وريثة ثروة ضخمة، عبارة «العلاقات الخاصة» في وصف علاقات الدم والقرابة التي تربط بلاده بأميركا. وربطت بريطانيا، القوة الإمبريالية السابقة، روابط وثيقة بعشرات الدول الأفريقية والآسيوية. وكان كلمتها وازنة في تحديد مستقبل أوروبا، فهي صاحبة واحد من أكبر الاقتصادات الأوروبية. وكانت توازن نفوذ المحور الفرنسي- الألماني.
وأظهرت أزمة السويس أن أميركا لا تتردد في التفريط بـ «العلاقة المميزة أو الخاصة»، ما إن تتعارض مع مصالحها القومية. وعلى رغم أن البريطانيين لم يكونوا أبرز اللاعبين في الاتحاد الأوروبي، صمدت أركان السياسة الخارجية الثلاثة، ورسخ واحدها (الركن) الآخر. فعلى سبيل المثل، ساهمت عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي في النفخ في نفوذها في أميركا، وزادت دالتها في الاتحاد الأوروبي مكانتها في واشنطن. وكان الانتساب الى الاتحاد الأوروبي يعظم دور بريطانيا الدولي، ويربطها باتفاقات تجارية مع 53 دولة.
والحق يقال قرار بريطانيا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي يقوض نفوذها في أوروبا. ولو تكللت مفاوضاتها بيسر بلوغ سلعها وشركاتها السوق الموحدة، لن يسعها المشاركة في قرارات الاتحاد. وضعفها صار بائناً: فإلى اليوم، لم يفلح ديفيد ديفيس، كبير المفاوضين البريطانيين على بريكزيت، إلا في تقديم التنازلات. وعزلتها كبيرة. فالأوروبيون يطلبون من رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، مغادرة اجتماعات تعقد لمناقشة شؤون قطاع الأعمال في الاتحاد الأوروبي. وبريطانيا تنسحب من الاتحاد في وقت علاقاتها بأميركا تمر في مرحلة خطرة: دونالد ترامب رئيس أميركي متقلب المواقف والآراء وقد ينزلق الى الأسوأ، وهو يرفع لواء «أميركا أولاً». ولا يجمع الأوروبيون عليه، فهو يبث الفرقة والشقاق. إذا تقربت بريطانيا منه انفض الأوروبيون عنها.
ويرفع مؤيدو البريكزيت لواء الانفتاح ويقولون إنهم دوليون ومعولمون، ويزعمون أن انعتاقهم من جثمان أوروبا العفن، سيطلق العنان لبريطانيا فتبسط نفوذها في العالم النامي. ولكن لا مؤشرات الى أن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي قيّدت عمل الشركات البريطانية. ولم يحل الاتحاد هذا دون ارتقاء شركات ألمانية متوسطة الحجم الى مصاف مراكز قوة معولمة. وقد ينجم عن الانسحاب من أوروبا خلاف الدور المرجو: فالدول النامية يتصدر أولوياتها الدخول الى سوق الاتحاد والوصول الى مستهلكيه، وعددهم 500 مليون نسمة. وقال هنري كيسنجر قبل أيام في مؤتمر لندني إن بريكزيت هو فرصة لتجديد العلاقة العابرة للأطلسي. ولكنه أغفل السؤال الذي يقال إنه طرحه يوم كان يدير السياسة الخارجية الأميركية: «بمن أتصل إذا أردت الكلام مع أوروبا؟». ويرجح أن واشنطن ستمضي وقتاً أطول على الهاتف مع دولة في الاتحاد الأوروبي وليس مع دولة خارجه. فترامب يزور فرنسا للمشاركة في احتفالات الرابع عشر من تموز (يوليو)، وزيارته بريطانيا غير مؤكدة. والأسواق النامية تريد التعامل مع كتلة عظمى (أوروبا) وليس مع دولة صغيرة متقلبة السياسات.
ومنذ الثمانينات، كانت بريطانيا وأميركا من رواد دعاة أيديولوجيا النيوليبرالية الغالبة اليوم. وجال مستشارون بريطانيون أوروبا ودول الاتحاد السوفياتي السابقة لترويج الخصخصة وفوائدها والدعوة اليها. ومع الأزمة المالية في 2008، اهتزت النيوليبرالية، وأصابتها ضربة مزلزلة. فتمددت الشعبوية في بريطانيا وأميركا: أبصر «بريكزيت» النور على ضفة الأطلسي الأوروبية، وعلى ضفته الأميركية، برز دونالد ترامب. وزعم دعاة بريكزيت أن الانسحاب يؤدي الى «ربيع» فيترنح «النظام القديم» في أوروبا ويغرق اليورو وينهار. وعلى خلاف مزاعمهم، الاتحاد الأوروبي في أمثل أحواله، وثمة رئيس شاب إصلاحي في قصر الإليزيه، والمحور الألماني- الفرنسي راسخ ومتين. وصارت الصحافة الأوروبية تصف بريطانيا بـ «رجل أوروبا المريض». وإثر أزمة السويس، رثى دين أشيسون، وزير الخارجية الأميركية بين 1949 و1953، بريطانيا، وقال إنها خسرت إمبراطورية وفشلت في تحديد دور جديد لها. ولكن في العقود اللاحقة، أدت بريطانيا في مرحلة ما بعد الإمبراطورية أدواراً كثيرة، منها التحول الى نقطة ارتكاز بين أوروبا وأميركا؛ وصاحبة الباع الطويل والخبرات في العولمة في زمن يتعولم من جديد؛ ورائدة النيوليبرالية. ولكن بعد الأزمة المالية والبريكزيت، يبدو أنها خسرت أدوارها كلها في ضربة واحدة.
إيكونوميست 2017-07-19
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews