المراجعاتُ في زمن التحديات
هل ثمة حاجةٌ للحديث عن المراجعات والإصلاح في زمن التحديات؟.. أم أن الأولى تأجيل مثل ذلك الحديث في مثل هذه الأزمان تحديدًا؟ بشكلٍ أو بآخر، يطرح السؤال نفسهُ على الواقع العربي بقوة، خاصةً حين يتعلق الأمر بموضوع المراجعات المتعلقة بفهم الإسلام، وكيفية تعامله مع ذلك الواقع.
ملامح الظاهرة التي نتحدث عنها عديدة، لكن من أبرزها ذلك (التراجع)، عند شرائح من المثقفين الإسلاميين، عن بعض مواقعهم ومواقفهم القوية السابقة التي كانت تدعو إلى المراجعات الداخلية، وإلى النظر للعالم بكل ما فيه من بشر وأحداث من منطلقات الاجتهاد والتجديد والرؤية المقاصدية. ليس الكلام هنا عن المراجعات السياسية، لأن الحديث في هذه المراجعات وحولها صار من نافلة القول عند هؤلاء وعند غيرهم. وإنما نتحدث في هذا المقال عن المراجعات الذاتية الثقافية والفكرية والدينية التي لا يمكن أن يوجد إصلاحٌ سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي إلا من خلالها وبناءً عليها.
أسباب الظاهرة عديدة. وقد يتمثل أوّلها في رداءة الواقع العربي، وفي الإحساس بأن العطاء السابق لم يُؤثِّر إيجابيًا في «الأمة»، إلى درجة الشك بلسان المقال أو بلسان الحال في ذلك العطاء وفي الأفكار التنويرية التجديدية الثورية التي كان يجري التأكيد عليها في الماضي. ولو نظر هؤلاء بمنظارٍ آخر لتذكَّروا أن سوء الوضع العربي هو أدعى للاستمرار على نهجهم السابق، لأن هذا السوء ليس ناتجًا عن عطائهم الذي كان، أصلًا يُحاصرُ، بين مطرقة التقليديين وسندان الأنظمة السياسية.
من وجهة النظر هذه، يُصبح واضحًا أن الواجب الآن يقتضي متابعة المسيرة التي يمكن أن تكون أكثر فعاليةً وتأثيرًا في الظروف المعاصرة الجديدة كليًا، بدلًا من الاستسلام للشكوك والأوهام التي قد تؤدي للانسحاب منها.
ويصبح فهم الظاهرة ممكنًا أكثر إذا وضعناه في إطارٍ أكبر يتمثل في عملية (الانحصار) الجغرافية أو النفسية والفكرية لدى بعض هؤلاء. فالانحصار الطويل مثلًا في بقعةٍ جغرافية معينة يؤدي إلى التأثر تدريجيًا بكل مكوناتها الثقافية، وإلى رؤية العالم وأحداثه، وبالتالي الحكم عليها، من خلال المنظار الثقافي والسياسي والاجتماعي والنفسي السائد في تلك البقعة. كما أن مثل هذا الانحصار يمكن أن يؤدي إلى الغرق في الواقع العملي وفي ظروف اللحظة الراهنة، من خلال رؤيةٍ آنيةٍ وتحليلٍ قصير المدى، لا يأخذان في اعتبارهما النظرة الاستراتيجية السُننية لقوانين الوجود البشري، والتي يجب أن يستمر النظر إلى الأحداث الطارئة وقراءتها وتحليلها من خلالها. ففي غياب تلك النظرة، يختفي الفرق بين رؤية أمثال هؤلاء المثقفين المُفترض أن تكون شمولية وإستراتيجية، وبين قراءة ورؤية الإنسان العادي البسيط الذي لا يدرك ترابط القضايا ولا يستطيع رؤيتها في سياقها التاريخي ولا وضعها في إطار استقراء علمي للمستقبل.
كما أن من الممكن فهم الظاهرة إذا أخذنا بعين الاعتبار اشتداد الضغط الصادر عن المنتفعين والانتهازيين من العرب، خاصةً منهم دعاة الاستلاب الكامل إلى الآخر والذوبان النهائي فيه. فهذا الضغط، الذي يحاول استغلال الظروف الراهنة لتحقيق مصالح مادية وأيديولوجية، تكون في بعض الأحيان شخصيةً بحتة، يؤدي أحيانًا إلى رد فعلٍ يمكن أن يتطور إلى الارتداد عن مبادئ التنوير والوسطية بشكلها الثوري، بدعوى أنها يمكن أن تخلق ظروفًا يمكن أن تساعد أولئك المنتفعين والانتهازيين على تحقيق أهدافهم.
على العكس من ذلك، قد يكون التراجع خطيرًا في هذ المرحلة بالذات، لأن المرحلة تقتضي مراجعاتٍ أكبر، بل وتقتضي الدعوة إلى ثورة ثقافية فكرية على كل صعيد. ومن الضرورة بمكان هنا الخروج من عقلية الثنائيات التي أفلح المتطرفون، من شتى الخلفيات، في وضع العالم كله بين فكي كماشتها، ومن ضمنهم كثيرٌ من المثقفين، بحيث بات الخيار وكأنه محصورٌ أو مقصورٌ في الاستسلام الشامل لما يجري، أو المبالغة في التخندق في المواقع القديمة، ولو اقتضى ذلك التراجع عن مسيرة المراجعات الشاملة التي كانت تهدف إلى استعادة القدرة الحضارية للذات قبل أي شيءٍ آخر.
المدينة 2017-04-23
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews