وكالات الامم المتحدة للمساعدات الانسانية تعمل في خدمة النظام واستراتيجيته العسكرية والسكانية

ضخت وكالات الامم المتحدة المختلفة مقدرات هائلة (4 مليار دولار حتى الان) لمواجهة الازمة الانسانية داخل سوريا. فالمساعدات التي قدمتها لملايين السوريين جديرة بالتقدير، ولكن محظور علينا ان نتجاهل انه منذ الايام الاولى من الثورة في سوريا، والتي تدهورت بعد ذلك الى حرب أهلية، أخضعت وكالات الامم المتحدة العاملة في سوريا نفسها لمطالب النظام.

يقوض سلوك وكالات الامم المتحدة في سوريا المبادىء الاساس للمساعدات الانسانية، وعلى رأسها الحفاظ على الاستقلالية، الحيادية وتقديم المساعدة بلا انحياز. وساهم سلوك الوكالات في نجاح التكتيكات القتالية الوحشية وغير الشرعية للنظام، بما فيها تجويع أكثر من مليون نسمة في أرجاء سوريا الخاضعة للحصار والتطهير العرقي للتجمعات السنية التي تمردت ضد النظام. ليس هذا فقط، بل إن جزءاً من المساعدات وجه الى الوزارات الحكومية والى مقربي النظام ممن يشاركون بشكل مباشر في مساعدة جهوده الحربية.

لقد تقررت طبيعة العلاقات بين النظام السوري ووكالات الامم المتحدة منذ بداية الثورة الشعبية في سوريا. فقد بدأت المظاهرات في مدينة درعا في جنوب سوريا، في آذار 2011 وانتشرت منها. ومن أجل سحق الثورة، فرض النظام حصارا على مدينة درعا في نيسان 2011. وبعد بضعة أسابيع من بدء الحصار، والذي في اطاره منع النظام السكان من مغادرة المنطقة أو ادخال البضائع الى المدينة، حاولت احدى وكالات الامم المتحدة ادخال المساعدة الى المدينة المحاصرة، ولكن مسؤولين كبار في نظام الاسد، بمن فيهم نائب وزير الخارجية فيصل مقداد، أوضحوا بان تأثيرات موظفي الامم المتحدة ستلغى، وسيضطرون الى مغادرة سوريا. ومنذئذ أملي سلوك الامم المتحدة في سوريا بدء ذي بدء بالرغبة في الامتناع عن طرد طواقم الامم المتحدة من الدولة، مما سيضر شديد الضرر بقدرة الامم المتحدة على مواصلة تقديم المساعدات في سوريا.

على ألا يغضبوهم فقط

على مدى الحرب الاهلية في سوريا ارتكب نظام الاسد خروقات فظة لحقوق الانسان تضمنت جرائم حرب (تعذيبات، تجويع للسكان المدنيين، استخدام دروع بشرية، تدمير مقصود للبنى التحتية، اطلاق نار مقصود ضد المدنيين، اعدامات، سلب ونهب، استخدام للسلاح الكيميائي، اغتصاب معتقلات) وجرائم ضد الانسانية (إبادة، استعباد، تطهير عرقي، اخفاء معتقلين). ورغم هذه الخروقات الفظة للقانون الدولي، تتردد وكالات الامم المتحدة في انتقاد النظام خشية طردها من الدولة.

35 موظف من الامم المتحدة معتقلون لدى النظام في سجون معروف أنه تتم فيها إبادة منهاجية للمعتقلين، والامم المتحدة لم تنتقد علنا النظام على ذلك أبدا. ويمكن أن يجسد هذا التردد ايضا بشكل ملموس اذا ما قارما بين شجب الاونرا بعد القصف الاسرائيلي لمدرسة في غزة في اثناء حملة الجرف الصامد، وبين بيان الاونرا في أعقاب القصف الذي نفذه نظام الاسد في حزيران 2016 على المركز الجماهيري للاطفال في مخيم اللاجئين الفلسطينيين خان الشيخ الخاضع لحصار النظام. فبيان الاونرا لم يذكر على الاطلاق من أي الجهة المسؤولة عن القصف او عن الحصار على المخيم.

يستخدم نظام الاسد تجويع السكان الخاضعين للحصار بشكل منهاجي كي يفرض عليهم اتفاقات استسلام تسمى “وقف نار”، وفي اطارها يسمح بادخال المساعدات الانسانية الى البلدات مقابل استسلام السكان لإمرته أو “موافقتهم” على الاخلاء الكلي أو الجزئي. وأشرفت الامم المتحدة على هذا النقل للسكان السنة في سلسلة من اتفاقات الاستسلام. ووكالات الامم المتحدة، المسؤولة عن تقديم المساعدات، تعمل كأدوات في أيدي النظام – للسكان المستسلمين يدخل الغذاء، وللسكان الذين يواصلون التمرد لا تصل أي مساعدات، فيتضور السكان جوعا.

أكثر من مليون سوري يعيشون اليوم في حصار، نحو 99 في المئة منهم في حصار من نظام الاسد. حتى الان قتل نظام الاسد 995 مواطنا من خلال فرض الحصار – معظمهم أميتوا بالجوع، والباقون لانه منع عنهم العلاج الطبي. كما أن الامم المتحدة تقلص بشكل مصطنع عدد الاشخاص المحاصرين في سوريا كي ترضي النظام؛ فحسب المعطيات الرسمية لدى الامم المتحدة فان 586.000 نسمة سوريين “فقط” يعيشون تحت الحصار. بلدة مضايا، مثلا، لم توصف كمحاصرة حين مات العشرات من سكانها جوعا الواحد تلو الاخر في اواخر 2015 وبداية 2016.

لا تنشر الامم المتحدة في الغالب حقيقة أن النظام يمنعها من الوصول الى المناطق الخاضعة للحصار. ومنذ البداية لا تكثر الامم المتحدة من طلب الوصول الى هذه المناطق خوفا من ان تغضب النظام. في ايلول 2016 مثلا، رفض النظام 80 في المئة من الطلبات القليلة التي تقدمت بها الامم المتحدة لتقديم المساعدات للمناطق المحاصرة. وفضلا عن ذلك، تقل الامم المتحدة من الحديث عن أن النظام ينزع عتاد ضروري من قوافل المساعدات التي يسمح بادخالها. فمثلا، في ايلول 2016 نزع النظام 1.5 طن من العتاد الطبي من القافلة التي دخلت الى بلدة مضايا والزبداني واللتين كانتا في اتفاق لوقف النار فرض على السكان من خلال حصار طويل. فقد أنزال النظام من القافلة التي سافرت الى حي الوعر في مدينة حمص، التي توجد هي ايضا في اتفاق كهذا لوقف النار، بذورا لزراعة الخضار تساعد السكان على النجاة رغم المجاعة وعتادا لاجراء العمليات الجراحية.

في اثناء السنوات الثلاثة الاولى من الحرب الاهلية في سوريا، رفضت وكالات الامم المتحدة تقديم المساعدات للمناطق التي خارج سيطرة النظام بحجة ان ليس لذلك أساس قانوني. وحتى بعد أن اتخذ في حزيران 2014 قرار مجلس الامن الذي سمح لوكالات الامم المتحدة صراحة باجتياز الحدود السورية دون إذن النظام من أجل تقديم المساعدات للسكان، فان الامم المتحدة تقلل من عمل ذلك خوفا من اغضاب النظام. نحو 80 في المئة من مساعدات الامم المتحدة تواصل الوصول الى المناطق التي تحت سيطرة النظام، والباقي الى المناطق التي تحت سيطرة الثوار السوريين. بعض من المساعدات الى المناطق التي تحت سيطرة الثوار يأتي من مناطق تحت سيطرة النظام في داخل سوريا. واجراءات الحصول على الاذن من النظام لنقل المساعدات الى المناطق الثائرة معقدة وبطيئة. في 2015 لم تقر سوى 10 في المئة من الطلبات. وحتى عندما يصدر الاذن، فهذا لا يضمن ألا يمس النظام وحلفاؤه بمن ينقلون المساعدات مثلما كان يمكن أن نرى في القصف الروسي على قافلة المساعدات للهلال الاحمر السوري في ضواحي حلب في الشهر الماضي، والذي قتل 11 من العاملين في المساعدات.

المساعدات المكثفة من وكالات الامم المتحدة تسمح بحفظ مستوى معيشة محتمل في المناطق التي تحت سيطرة النظام في الوقت الذي يعد فيه مستوى المعيشة في المناطق التي تحت سيطرة الثوار أدنى بكثير. وبسبب القصف الشديد على المناطق التي تحت سيطرة الثوار ووجود المساعدات الانسانية في المناطق التي تحت سيطرة النظام، نزح ملايين السوريين من بيوتهم وفروا الى المناطق التي تحت سيطرة النظام. وهكذا تساعد وكالات الامم المتحدة النظام في استراتيجيته لتهريب السكان من المناطق التي تحت سيطرة الثوار، سواء الى خارج حدود سوريا أم الى المناطق التي تحت سيطرته.

قوة الانذار

تقدير داخلي أجراه مكتب تنسيق الشؤون الانسانية التابع للامم المتحدة – أوتشا – في سوريا في 2016 وجد أن الامم المتحدة لا تتابع توزيع المساعدات وليس لديها السبيل لمعرفة الى اين تصل أغلبية المساعدات. وفي احيان قريبة تستند الامم المتحدة الى الهلال الاحمر السوري، الذي يعمل كذراع للنظام السوري، في توزيع المساعدات. ويسمح النظام لمنظمة الغذاء العالمي (WFP)، في الامم المتحدة بالاشراف على توزيع الغذاء، ولكن النظام يقرر اين يسمح لمندوبي المنظمة بالوصول والى أين لا. وعليه فقد وجه النظام في احيان قريبة المساعدات الانسانية لاهداف عسكرية. هكذا، فان المساعدات التي انزلت من الجو الى دير الزور، التي يحاصرها داعش، نقلت المرة تلو الاخرى الى مقاتلي النظام في المدينة، وبعد ذلك باعوا ما لم يستهلكوه بأنفسهم الى المواطنين المحاصرين باسعار عالية على نحو خاص. وغير مرة صدرت صور من مواقع جيش النظام وميليشياته تظهر خيام لمفوضية اللاجئين للامم المتحدة وعلب المساعدات الانسانية من وكالات الامم المتحدة.

نظام الاسد هو الذي حدد الهيئات التي يسمح للامم المتحدة العمل معه في المناطق التي تحت سيطرته. ومع أن بعضا من هذه المنظمات غير سياسية بالنسبة لسوريا، فان هيئات اخرى في القائمة هي وزارات حكومية أو يديرها مسؤولون كبار في النظام ومقربين منه، واختارت الامم المتحدة ان تنقل الى هذه المنظمات الاموال في اكثر من مرة. وتبرر الامم المتحدة نقل الاموال الى هؤلاء الاشخاص وتلك المنظمات بانها ملتزمة بالعمل فقط بموجب عقوبات الامم المتحدة. ولان روسيا عضو في مجلس الامن فقد منعت اتخاذ كل قرار بفرض عقوبات على النظام وعلى شخصيات تساعده في تنفيذ خروقات فظة لحقوق الانسان.

بحث نشرته صحيفة “الغارديان” أظهر بان وكالة اللاجئين في الامم المتحدة ومكتب تنسيق الشؤون الانسانية نقلا 8.5 مليون دولار الى جمعية خيرية تديرها اسماء الاسد، زوجة الرئيس السوري.

ونقلت منظمة الصحة العالمية 5 مليون دولار الى بنك الدم السوري، الذي يوجد تحت سيطرة وزارة الدفاع السورية، وهناك شهادات على أن الجنود والمقاتلين من النظام يتلقون تفضيلا في تلقي وحدات الدم. ونقلت منظمة الغذاء والزراعة (FAO) من الامم المتحدة أكثر من 13 مليون دولار الى وزارة الزراعة السورية مقابل البذور. والفضيحة الاكبر منها جميعها هي قرار اليونسيف منح 267.933 دولار لمشاريع المساعدات الانسانية لمنظمة “جمعية البستان” بإدارة رامي مخلوف ابن خال بشار الاسد، والرجل الاغنى في سوريا. وتعمل جمعية البستان بشكل رسمي كجمعية خيرية تعمل أساس في المناطق العلوية، ولكنها ايضا مصدر تمويل لميليشيا تقاتل من أجل نظام الاسد، ولا سيما في منطقة حماة وحمص. ومخلوف هو الممول لما لا يقل عن ثلاث ميليشيات تقاتل من أجل نظام الاسد. وهذه الميليشيات مسؤولة عن مذابح مخيفة ضد مدنيين سنة. والمعنى هو أن اليونسيف نقلت الاموال الى منظمة توجه قسما هاما من ميزانيتها لدفع رواتب لمجرمي الحرب.

ان وكالات الامم المتحدة العاملة في سوريا تقف أمام خيار صعب جدا، وخوفها من أن تطرد من الدولة ولا تتمكن من تقديم المساعدات لملايين المحتاجين هو خوف مفهوم. ومع ذلك ولا سيما في هذه المرحلة من القتال، فان النظام متعلق بالمساعدات المكثفة التي تقدمها وكالات الامم المتحدة للدولة. وتسمح لها هذه المساعدات بان توجه مقدرات من توريد الغذاء والخدمات الاساسية الى مواطنيها نحو الجهد القتالي. في مثل هذا الوضع فان الموقف المشترك من المنظمات العاملة في سوريا وتوجيه انذار للنظام – في أنه اذا لم تمنح لها الامكانية لتقديم المساعدات لكل سوريا، بما فيها المناطق المحاصرة، فستتوقف عن العمل – سيجبر النظام على التراجع، حتى لو لم يكن بشكل كامل.

ان النظام السوري المتعثر – بدون أرصدة من العملة الصعبة وتحت عبء العقوبات الخانقة من الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة – لا يمكنه أن يسمح لنفسه بانفاق مليارات اخرى كل سنة، مليارات لا يملكها، على توريد الخدمات التي تقدمها وكالات الامم المتحدة في سوريا.

معاريف 20/10/2016