صدمة الخروج ستحول نموذج الأعمال في بلدان أوروبا
من المفيد جداً إعادة صياغة السرد عن الأزمات الاقتصادية المتعددة في أوروبا من حيث نماذج أعمال البلدان. الاتحاد الأوروبي لديه عدد منها يُعتبر غير مُستدام. المثال التي يكثر الاستشهاد به هو اعتماد ألمانيا المُفرط على التصنيع، مثال آخر هو اعتماد بريطانيا المُفرط على النشاطات المالية.
فشل نماذج الأعمال الوطنية يستغرق بعض الوقت ليظهر، فألمانيا ربما ستظل منافِسة قوية في غضون عقد من الزمن، لكن خروج بريطانيا سيُسرّع بزوال نموذج الأعمال في بريطانيا.
الحي المالي في لندن بالتأكيد سيبقى المركز المالي الرئيسي في أوروبا، لكنه لن يكون قادرا على الاحتفاظ بدوره باعتباره المركز المالي لمنطقة اليورو. جواز السفر الموحد في الاتحاد الأوروبي للخدمات المالية مكّن المؤسسات المالية المُسجّلة في المملكة المتحدة من العمل في جميع أنحاء الاتحاد، بدون تعريض نفسها للتنظيم والرقابة المحلية في البلدان. على مدى 17 عاماً، كانت بريطانيا قادرة على لعب هذه اللعبة بدون اعتماد اليورو.
الحي المالي في لندن يجب أن يبحث الآن عن دور جديد، لأن إصرار تيريزا ماي على فرض ضوابط على الهجرة يسوّي المسألة. عقيدة رئيسة الوزراء البريطانية لخروج بريطانيا لا تترك خيارا للاتحاد الأوروبي سوى الإصرار على خروج صعب لبريطانيا. أخبرنا بذلك كل من أنجيلا ميركل وفرانسوا هولاند، الزعيمين الألماني والفرنسي، في الأسبوع الماضي. ليس هناك مجال للكلام الفارغ. خروج بريطانيا يعني أن بريطانيا ستترك السوق الموحّدة والاتحاد الجمركي.
لذلك نحن على وشك أن نشهد تحولا من نموذج الأعمال القديم غير المستدام إلى شيء جديد، لا ينبغي لنا التظاهر بأن هذا سيكون بلا ثمن. كره الأجانب العلني في مؤتمر حزب المحافظين الأسبوع الماضي، قد ينتهي بإبعاد نفس الأجانب الذين لا تستطيع المملكة المتحدة أن تتحمل خسارتهم.
هناك خطر يتمثّل في أن خروج بريطانيا والتغيير المرتبط في نموذج الأعمال سيصاب بالاختلال، خروج بريطانيا ليس بالضرورة قرارا سيئا، لكنه يتطلّب النوع الصحيح من السياسة حتى ينجح.
رئيسة الوزراء البريطانية مُحقّة في موازنة الخروج الصعب لبريطانيا مع التحوّل في اتجاه الاقتصاد البريطاني بعيداً عن الرأسمالية التجارية نحو صيغة أكثر شمولاً من اقتصاد السوق الحرة. هذا يبدو منطقياً. هناك طريقة واحدة للتفكير في هذا هي النظرية التي أطلقها مانكور أولسون، مختص الاقتصاد السياسي الأمريكي من القرن العشرين، الذي حاول تفسير السبب في أن ألمانيا واليابان كان أداؤهما جيداً بعد الحرب العالمية الثانية.
في كتابه "صعود وتراجع الأمم" في عام 1982، يذكر أن مجموعات الضغط القوية تستطيع إجبار البلاد على مرحلة تأتي عندها صدمة تدمر النظام الاقتصادي.
في حالة ألمانيا واليابان، هذه المرحلة كانت هزيمة في زمن الحرب، التي سمحت لكل بلد من البلدين بإعادة ابتكار نفسه. خروج بريطانيا يمكن أن يفعل نفس الشيء في المملكة المتحدة. لهذا السبب استراتيجية مزدوجة من خروج صعب لبريطانيا وتحوّل في طبيعة الرأسمالية البريطانية هي أمر مُثير للاهتمام. الأمر الأول يُشكل الصدمة، والثاني التحوّل. أولسون كان سيحب ذلك.
الحي المالي في لندن لن يهلك في هذا السيناريو، بل إنه حتى يمكن أن يحقق أداء جيدا مع نماذج الأعمال من نوع التكنولوجيا المالية الجديدة، أو كمركز مالي لا يخضع للتنظيم، على غرار سنغافورة. على أن أهميته النسبية داخل الاقتصاد البريطاني قد تتراجع كثيراً.
هناك بلاد أخرى في أوروبا لديها نموذج أعمال غير مُستدام: إيرلندا. حيث تُقدّم معدلات ضريبية منخفضة للشركات والتهرّب القانوني من الضرائب للمستثمرين الأجانب.
الحُكم الذي أصدرته المفوضية الأوروبية لإجبار شركة أبل على دفع ضرائب بقيمة 13 مليار يورو إلى الحكومة الإيرلندية، هو علامة على أن هذا النموذج قد لا يكون مُستداماً لفترة أطول بكثير. بروكسل أيضاً تضغط نحو مواءمة الأساس الضريبي للشركات - القواعد على ماذا يجب فرض الضرائب.
دبلن كانت تقاوم مثل هذا التغيير، لكن مع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، ستخسر حليفا في المعركة ضد التنسيق الضريبي المفروض من الاتحاد الأوروبي. إيرلندا استفادت كثيرا من مكانتها كملاذ ضريبي، لكن هذا النموذج غير مُستدام.
ربما التقاء خروج بريطانيا والخسارة على المدى الطويل لنموذج الأعمال ستُقنع إيرلندا بأن تحذو حذو المملكة المتحدة والخروج من الاتحاد الأوروبي. هذا من الواضح أنه سيعتمد على ما إذا كانت إيرلندا تستطيع العثور على نموذج بديل داخل الاتحاد الأوروبي. هذا أمر ممكن، لكنه ليس حتمياً. خروج إيرلندا لن يحدث حتى يكون هناك وضوح أكبر من تكاليف خروج بريطانيا، كما سيعتمد أيضاً على ما إذا كانت منطقة اليورو ستُدير الأزمات المختلفة التي تواجهها بنجاح.
إذا تطوّر كل هذا كما أتوقع - بشكل سيئ - فإن الحجة الاقتصادية لخروج إيرلندا ستُصبح أقوى. إيرلندا قد تختار البقاء في الاتحاد الأوروبي لأسباب سياسية، لكن الذين في إيرلندا يفضلون عضوية الاتحاد الأوروبي يجدر بهم أن يفكروا قليلا في الأمور التي يمكن أن تتعرض للاختلال. خلافاً لذلك قد ينتهي بهم الأمر في نفس مكان مؤيدي حملة البقاء مُفرطي الثقة في المملكة المتحدة: يشعرون بالمرارة وبدون نفوذ.
فكرة نماذج أعمال وطنية قد تبدو غير بديهية، لكنها توفّر إطار عمل للتفكير بشأن مستقبل الاقتصادات الأوروبية. خروج بريطانيا هو مثال نادر لتحوّل من نوع ما توقعه أولسون في الوقت الحقيقي. توقّعي هو أنه لن يكون الأخير.
(المصدر: فايننشال تايمز 2016-10-15)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews