استفتاء سريع
شخصية الأسبوع الماضى فى مصر هى سائق «التوك توك» الذى فتح قلبه على مصراعيه وعبر عن كل ما يعتمل فى نفوس غالبية المصريين فى الوقت الراهن من غضب وحسرة. قال ما نعرفه ونستشعره لكننا لم نسمعه من غيره. إذ خلال ثلاث دقائق من الصراحة غير المألوفة نجح فى أن يمحو أصوات المهرجين والمنافقين ولاعبى الثلاث ورقات، الذين ملأوا أسماعنا بالهراء والدجل، بما استصحبه من ترويج للإفك والكذب عبر مواعظ باتت تلقى علنا بصورة منتظمة كل مساء.
تحدث الرجل بتلقائية مدهشة وبلغة من خارج الصندوق فى البرنامج التليفزيونى الذى يقدمه الإعلامى عمرو الليثى. وحين فعلها فإنه مس أوتارا حساسة وقلَّب مواجع مسكوتا عليها، وكان أداؤه صريحا ومفاجئا بحيث لم يحتمله موقع القناة التليفزيونية التى تقدم البرنامج فرفعته بعد ساعات قليلة من بثه، بعدما جذب نحو عشرة ملايين مشاهد (كما ذكرت صحيفة الشروق أمس) ، إلا أنه لم يختف تماما لأن المواقع الأخرى تخاطفته بعدما ذاع أمره بسرعة البرق وطرق أوسع دائرة من الأسماع فى الفضاء المصرى.
لم يصدق البعض أن ذلك كلام سائق توك توك عادى. فشككوا فى أن يكون الأمر معدا سلفا. ذلك أنه من النادر أن يعرض شاب رؤيته وتحليله للحالة المصرية بالصدق الذى عبر عنه. وفى الوقت ذاته يجرى المقارنات بين واقع مصر فى الماضى والحاضر، وبين مكانتها بين الدول حين بلغت الذروة يوما ما ثم تدهورت على النحو الذى صارت إليه. وحين يختزل كل ذلك فى ثلاث دقائق تحدث خلالها بكل حماس وبغير انقطاع، فإننا نصبح أمام أحد احتمالين: إما وراء ذلك معد فذ تخير ممثلا عالى الموهبة. وإما مواطن غير عادى واسع المعرفة وشديد الإخلاص والانفعال.
تلقائية الرجل وتدفقه فى الكلام أعطتنى انطباعا بأننا إزاء تعبير صادق وليس مفتعلا وأن الذى شاهدناه وسمعناه صادر عن مواطن شديد الغيرة على بلده ومفجوع فيما انتهى إليه أمره.
وهو فى ذلك ليس سابق الترتيب ولا ممثلا. مع ذلك فالقضية ليست فيما إذا كان الرجل خضع للتلقين بهدف التنفيس وامتصاص الغضب أم لا، لأن السؤال الأهم هو ما إذا كان كلامه صحيحا أم لا. فى الإجابة عن السؤال أزعم أن ما قاله صاحبنا يعبر عن شعور عام فى مصر. يختلط فيه الغضب بالحسرة والشعور بالمهانة. والانتشار السريع والفورى له وسيل التعليقات التى انهالت مؤيدة له ومتضامنة معه دال على أن الكلام تعبير عن حالة وليس مجرد رأى لفرد أو مجموعة محدودة من الأفراد. وهو ما يسوغ لى أن أقول بأنه استفتاء سريع ينبغى أن تؤخذ نتائجه على محمل الجد.
ما فعله الشاب سائق التوك توك لم يختلف كثيرا عن بطل قصة الدنماركى كريستيان أندرسون. التى روى فيها أن محتالين أقنعا ملكا محبا للثياب بأنهما قادران على صناعة ثوب مبهر له. لا يراه سوى الحكماء ولا تبصره عيون الحمقى. نصب الاثنان «نولين» لحياكة الثوب العجيب الذى ذاع أمره وظلا يديران ماكينة الحياكة دون أن يضعا لها شيئا. ثم جاءا للملك بما لم يره وألبساه الثوب الوهمى بعد أن تجرد مما يرتديه. وحين خرج على قومه مختالا فإن أحدا من بطانته وحاشيته لم يجرؤ على أن يكشف له الأمر حتى لا يتهم بالحمق، ويناله ما يناله من الغضب. الوحيد الذى جرؤ على فضح الأمر كان طفلا صغيرا من خارج الدائرة لم تكن لديه حسابات أو مواءمات، فهتف بصوت عال قائلا: إنى أرى الملك عاريا. ومنذ صدرت القصة فى القرن التاسع عشر فإن عبارة الطفل أصبحت تطلق على كل من فضح أمرا سكت عليه الناس ولم يجرؤ على البوح به. وهو ما فعله صاحب التوك توك فى حلقة البرنامج التليفزيونى. فأحدث الدوى الذى صار على كل لسان.
شهادة الرجل التى استغرقت ثلاث دقائق والذيوع السريع والشديد الذى حظيت به تعد جرسا ينبغى أن يسمع رنينه، لإيقاظ كل من يهمه الأمر، خصوصا القابعين فى الأبراج العليا وتنبيههم إلى حرج الموقف وخطورته. جيد أن ينكسر جدار الصمت ويرتفع صوت الغضب، وأجود منه أن ننصت إليه بحيث يغدو حافزا للإصلاح ومحركا لطاقة الإنقاذ.
(المصدر: الشروق 2016-10-15)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews