تطهير عرقي؟ نعم.. في 1948

العمل الألمعي الأخير لـ “المؤرخ الجديد” بنيامين نتنياهو، الذي قرر بأن إزالة الاستيطان الاستعماري في المناطق – والذي هو ذو مزايا فصل عنصري وليس قانونيا حسب كل مقياس قانوني دولي – هو تطهير عرقي، يواصل جذب المؤيدين. وآخرهم في القائمة هو موشيه آرنس الذي قرر بأن “التطهير العرقي هو طرد جماعات عرقية أو دينية من ارض معينة كي تكون منسجمة من ناحية عرقية أو دينية”. ومن هنا يستخلص أنه في كل مرة نقل فيها اليهود من بيوتهم ضد ارادتهم، بدء من مستوطني غوش عصيون في 1948 وحتى مستوطني قطاع غزة في 2005، نفذ تطهير عرقي كان اليهود ضحاياه. هذه ترهات ليس لها أساس من الصحة في التعريفات القانونية المتفق عليها.

التطهير العرقي هو مفهوم جديد، جاء الى الخطاب القانوني والجماهيري في 1992، في عهد الحرب في البوسنه. في حينه هاجم الصرب البوسنيون المسلمين في البوسنه بهدف طردهم من الاراضي الاقليمية التي كان السكان فيها مختلطين الى اراض كانت فيها اغلبية منسجمة من البوسنيين المسلمين. واستخدم الصرب أنفسهم لاول مرة هذا المفهوم في 1981، عندما تعرض الصرب في كوسوفو الى الاعتداء من المسلمين الالبان في المكان. في القاموس الدولي للتسعينيات تماثل الاصطلاح مع الحرب في يوغسلافيا، حين هاجمت جيوش من الجماعات العرقية الاقليات الاخرى (الصرب، الكروات، الالبان، الكوسوفيين، المسلمين البوسنيين)، بهدف طردهم الى مناطق اخرى يعيش فيها أبناء ذات الاقلية. الكروات الى كرواتيا، الصرب الى صربيا، الالبان الكوسوفيين الى البانيا وما شابه. وكان الاصطلاح موضع انتقاد من القانونيين والباحثين لانه يستخدم احيانا على سبيل اللغة النقية للحالات التي يفترض ان تسمى قتل شعب – جينوسايد.

بالفعل، التطهير العرقي ليس ظاهرة يسهل تعريفها. فمن جهة تختلف عن ممارسة الضغط للهجرة ولتبادل السكان، ومن جهة اخرى هو ايضا يختلف عن الجينوسايد – قتل الشعب. هناك اجماع واسع في البحث على أن التطهير العرقي هو شكل من الهجرة الاكراهية، التي يمكن ان تصبح عنفا وقتلا، للسكان غير المرغوب فيهم في ارض اقليمية معينة، بسبب العداء على خلفية عنصرية، عرقية، دينية، سياسية، استراتيجية او ايديولوجية.

هذا بالضبط ما حصل في 1948. فقد قال المؤرخ بني موريس إن معظم عرب البلاد، اكثر من 400 الف، دفعوا الى الهرب وطردوا في المرحلة الاولى من الحرب، قبل غزو الدول العربية. وطرح بعض الباحثين الاعتقاد بان الهجوم العربي العام على اسرائيل بدأ بالذات لان اسرائيل اتخذت سياسة التطهير العرقي. وذلك لانه من الصعب ايجاد منطق عسكري في تطهير مكثف لقرابة نصف مليون من السكان الفلسطينيين، والتعليل المنطقي لطردهم هو أن المناطق التي كانوا يقيمون فيها كانت مخصصة لان تكون دولة يهودية حسب مشروع التقسيم.

يدعي موريس بان اكثر من نصف سنة قبل بدء الغزو العربي تطلعت قيادة الحاضرة اليهودية الى توسيع الارض التي كانت مخصصة لاقامة دولة يهودية، والتقليص حتى الحد الادنى لعدد العرب الذين سيسكنون في اراضيها. بمعنى، نحو نصف مليون فلسطيني طهروا بالقوة من الاراضي الاقليمية التي كانوا يعيشون فيها، لانهم كانوا سكانا غير مرغوب فيها من ناحية عرقية، عنصرية، دينية، استراتيجية، او كل هذه الجوانب معا. مئات البلدات التي كان يعيش فيها هؤلاء السكان خربت حتى الاساس او سلمت للاستيطان اليهودي في نهاية الحرب. ممتلكات فلسطينية قيمتها عشرات الملايين سلبت وصودرت. واولئك الذين حاولوا العودة طردوا بالقوة او اطلقت النار عليهم. التطهير العرقي الذي جرى في فلسطين في 1948 هو احد التطهيرات العرقية الاكثر نجاحا في القرن العشرين.

نمط التطهير العرقي للفلسطينيين صحيح أيضا بالنسبة للسكان اليهود الذين كانوا يسكنون في بلدات غوش عصيون. ولكن يجدر بالذكر ان هذه كانت اربع بلدات وبضع مئات من اليهود فقط. ومع ذلك توجد فوارق مبدئية اخرى بين التطهير العرقي الذي اجري للفلسطينيين والتطهير العرقي الذي اجري في غوش عصيون وفي غوش قطيف، يتجاهلها كل الهاتفين للتفسير الذي أعطاه نتنياهو لمفهوم “التطهير العرقي”.

في 1992 شكل مجلس الامن في الامم المتحدة لجنة خبراء دولية، هدفها عرض تعريف متفق عليه لظواهر التطهير العرقي، واعطاء جهاز القضاء الدولي الادوات لتعريف الجريمة ومعاقبة المسؤولين عنها. وفي احدى الملاحظات التي سجلتها اللجنة عرف التطهير العرقي كـ “أفعال كفيلة بان تتسبب بهدم تام أو جزئي لجماعة من البشر”، ولاحقا: يدور الحديث عن “اقتلاع جماهيري للسكان من منطقة ما الى اخرى” ، يمكنه في هذه الظروف ان يؤدي الى موت (مطلق أو جزئي) السكان المقتلعين، مثلا اذا اضطر الاشخاص الذين طردوا من بيوتهم أن يسافروا مسافات طويلة ويكونوا فيها عرضة للجوع، العطش، الحر، البرد والامراض”.

لقد كان هدف هذه الصياغة فحص نقاط التماس بين التطهر العرقي وقتل الشعب والفحص في أي ظروف يتطور فيها التطهير العرقي الى جريمة قتل شعب. والاحرى، اذا راجعنا ما قررته لجنة الخبراء، فان الادعاء بان اخلاء اليهود من جانب دولتهم من بلدات قررت الدولة اخلاءها هو تطهير عرقي، هو هراء مطلق.

أولا، لاننا رأينا بان الدولة لا يكنها أن تنفذ تطهيرا عرقيا لسكان ينتمون الى ذات الجماعة العرقية. يمكنها ان تنفذ قتل شعب (مثلما فعل نظام الخيمر روج في كمبوديا)، ولكن اخلاء السكان من اصل عرقي معين وتوطينه من جديد بين السكان من ذات الاصل ليس تطهيرا عرقيا. هذا ما قررت الدولة عمله مع من اخلتهم من غوش قطيف في 2005 ومع من أخلتهم من قطاع يميت في 1982.

ثانيا، لا يوجد شيء ابعد من الواقع من وصف من اخلوا من يميت او قطاع غزة بتعبير يصف جمهورا بائسا اقتلع من بيته ويعيش الجوع والعطش ويكون عرضة للخطر الوجودي. فقد تعهدت اسرائيل بالحرص على العائلات التي اخليت، وخصصت لهم مبالغ طائلة. واذا ما اخلي في المستقبل مستوطنون من المناطق المحتلة، فعندها ايضا ستحرص الدولة على توفير شبكة امان تسمح لهم بان يبدأوا من جديد حياتهم في اسرائيل براحة.

الفلسطينيون هم الذين منذ التطهير العرقي الذي اجري لهم في 1948 وحتى اليوم بقوا عرضة للجوع، العوز، العنف والطرد الاضافي من بيوتهم وهم الذين يعيشون حياة عوز في غيتو ضخم في غزة أو في مخيمات اللاجئين في الضفة. هذا لن تخفيه ايضا كل التحليلات عديمة الاساس لنتنياهو ومؤيديه.

هآرتس 30/9/2016