Date : 29,04,2024, Time : 04:00:27 PM
4440 : عدد القراء حاليا
حالة الطقس
°C
Amman,Jordan
13
اليوم
العليا 22° الدنيا 12°
غداً
العليا 18° الدنيا 12°
أرسل خبر
آخر تحديث: الثلاثاء 09 شعبان 1437هـ - 17 مايو 2016م 02:25 ص

عمدة لندن المسلم والتاريخ الذي طمسناه

عمدة لندن المسلم والتاريخ الذي طمسناه
فهمي هويدي

نتخاب عمدة مسلم للندن يثير أشجاننا ويدعونا لأن نعيد قراءة ما نسيناه وما تشوه في ذاكرتنا التاريخية.

(١)

أصداء الحدث ترددت في مختلف أنحاء العالم، إلا أن رنينها القوى كان مكثفا في العالم العربي والإسلامي، فالحسابات كلها كانت في غير صالحه. واتجاهات الريح كانت ضده. ذلك أن التخوف من الإسلام والمسلمين صار عنوانا رئيسيا في الفضاء الأوروبي، استثمرته الأحزاب اليمينية في حملاتها الانتخابية إلى أبعد مدى، فضلا عن أن لندن لها تجربة غير منسية مع ما سمى بالإرهاب الإسلامي، حين فجر أربعة من الانتحاريين أنفسهم في قطارات لندن وإحدى حافلاتها، عام ٢٠٠٥، ما أدى إلى مصرع ٥٠ شخصا وإصابة نحو ٧٠٠ آخرين. وهي الخلفية التي استغلها منافسه على المنصب جولد سميث، الذي ما برح يذكر الناخبين بانتمائه الإسلامي، ووصفه بأنه "متطرف وخطر" ومتعاطف مع الإرهابيين، إلى غير ذلك من أساليب التخويف والكيد. إلى جانب ذلك فصديق خان ينتمي إلى أسرة باكستانية فقيرة مهاجرة. وأبوه كان سائق حافلة عاش مع زوجته وأولاده الثمانية في مسكن متواضع من ثلاث غرف وفرتها لهم بلدية لندن. أما منافسه فهو ابن بليونير يهودي ينتمي إلى الأرستقراطية البريطانية، ولثرائه ويهوديته وجذوره البريطانية وقعه الجاذب في أوساط الرأي العام. إلا أن صديق خان الذي أعلن أنه فخور بكونه مسلما لم يكن غريبا عن المجال العام ذلك أنه انتخب في مجلس العموم عن حزب العمال عام ٢٠٠٥، وظل في قلب المعترك السياسي منذ ذلك الحين. ولفت الأنظار حين اتسم أداؤه بالشجاعة والنزاهة والدفاع عن حقوق الإنسان. الأمر الذي وفر له سمعة إيجابية في محيط الرأي العام وفي أوساط الحركة النقابية العمالية التي ساندته.

كانت خصاله الشخصية وكفاءته التي أثبتها هي العنصر الرئيسي في نجاحه. غير أن ذلك النجاح ما كان له أن يتحقق لولا البيئة الديمقراطية عميقة الجذور في المجتمع البريطاني، التي حصنته إلى حد كبير أمام إعصار "الإسلاموفوبيا" الذي ضرب العديد من العوالم الغربية، وكان رسوخ الديمقراطية في إنجلترا وراء شيوع قيم التعددية والتسامح التي حين تربى عليها الناخب البريطاني، فإن ذلك أوصل صديق خان إلى ما وصل إليه. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن الرجل انتخب ليس لأنه مسلم، ولكن لأنه مواطن بريطاني كفء اقتنع الناخبون بأنه أجدر من منافسه بتولي منصب العمدية.

(٢)

الحدث كانت له دلالته المهمة، التي كشفت عن المتغير الحاصل في الخريطة السكانية للعاصمة البريطانية (٨ ملايين نسمة يتحدث سكانها ٣٠٠ لغة مختلفة). ذلك أن صديق خان (٤٥ سنة) فاز بـ٦٥.٥٪ من أصوات الناخبين، أي ١.٣ مليون ناخب مقابل ٣٤.٥٪ لمنافسه جولد سميث (٩٩٤ ألف صوت) ، وفسر ذلك بأنه يعكس التعددية الإثنية للمجتمع اللندني، إذ لم يعد يشكل البريطانيون البيض سوى ٤٥٪ من أفراده، ويشكل المسلمون واحدا بين كل ثمانية يعيشون في المدينة، علما بأن ٣٥٪ منهم بريطانيون اكتسبوا الجنسية بعدما ولدوا في دول أخرى.

على صعيد آخر، فمنذ أعلن نبأ فوز صديق خان يوم الجمعة ٦ مايو بدا الخبر مثيرا ومفاجئا للعواصم الغربية، التي لم تتوقعه، كما أنه استقبل بفرحة عارمة في أوساط المسلمين البريطانيين والآسيويين منهم بوجه أخص، إلا أنه أثار لغطا واسع النطاق في العالم العربي، الذي تلقى الحدث بحفاوة وانطباعات اختلفت أسبابها، فتعددت التعليقات التي تساءلت عن المستقبل الذي كان يمكن أن ينتظر الرجل رغم كل مزاياه لو أن أباه هاجر إلى دول الخليج العربي أو إلى أي دولة عربية أخرى، وهو تساؤل لم يكن استفهاميا بطبيعة الحال، لكنه كان استنكاريا وغامضا في أوضاع الوافدين وحظوظهم في التقدم والترقي بالعالم العربي. آخرون أشادوا بالديمقراطية البريطانية واحترامها للتعدد وتوفيرها حق المواطنين للمهاجرين بأمر القانون وضوابطه. في هذا الصدد قارن أحد الكتاب الأردنيين بين صديق خان الذي حصل على الجنسية البريطانية منذ ولد في لندن لأبوين باكستانيين عام ١٩٧٠ وبين المخرج المصري المعروف محمد خان، الذي ولد في عام ١٩٤٢ لأب باكستاني وأم مصرية، وحقق إنجازات كبيرة في المجال السينمائي. مع ذلك فإنه لم يحصل على الجنسية المصرية إلا في أواخر عام ٢٠١٣، بعد وساطات كثيرة وبعدما تجاوز سن السبعين!

فريق ثالث من الكتاب اعتبر انتخابات صديق خان بداية نقلة للمسلمين في إنجلترا وربما في أوروبا كلها، تحفظ الحقوق وتقلب صفحة الإسلاموفوبيا لمن يعانون منها، وقرأت في هذا السياق لمن كتب محتفيا بما حدث ومعتبرا أنه من فضائل العلمانية ومن الثمار الطبيعية لفصل الدين عن الدولة، ومعتبرا أن تقصير العالم العربي أو تراخيه في ذلك الفصل هو سبب الكوارث التي حلت بالعرب وجعلتهم في ذيل الأمم. وبين هؤلاء من أجرى مقابلة بين ما تفعله "داعش" بالمختلفين معها، مسلمين كانوا أم غير مسلمين، وبين ثمار التسامح التي تحققت في النموذج البريطاني. ولم يخل الأمر من انشغال البعض بالتساؤل عما إذا كان صديق خان سنيا أم شيعيا، ولماذا لا ترتدي زوجته الحجاب؟ وإلى أي مدى ذاب الرجل في التقاليد البريطانية التي يتعارض بعضها مع تعاليم الدين الإسلامي وأحكامه؟ .

(٣)

استوقفتني الأصداء حتى كانت الحافز الرئيسي لتطرقي إلى الموضوع، فبعضها مصيب وفي محله. والبعض الآخر تصدى له صديق خان حين قال إنه لكل اللندنيين وليس للمسلمين وحدهم. وحين عبر عن اعتزازه بانتماءاته المتعددة، من كونه مسلما أو من جذور باكستانية، كما أنه بريطاني ولندني ومن مشجعي نادي ليفربول لكرة القدم، مضيفا أنه كل هؤلاء. من تلك الأصداء ما اتسم بالخفة والسذاجة كذلك الذي حاول إقناعنا بأن العلمانية هي الحل وأن فصل الدين عن الدولة مفتاح التقدم متجاهلا أن الرئيس بشار الأسد اعتبر أن نظامه هو العلماني الوحيد في العالم العربي، وأن صدام حسين كان يفتخر بعلمانيته. كما أنه تناسى أن بريطانيا أقامت تصالحا بين الدولة والدين واعتبرت الملكة رئيسة الكنيسة. وقد بلغت ما بلغته لأنها تمسكت بالديمقراطية قبل العلمانية، أما الأصداء التي ركزت على سلوك الرجل وانتمائه المذهبي فهي من قبيل التنطيع الذي لا يستحق أن نضيع وقتنا معه.

الملاحظة الأهم عندي أن انبهار بعض مثقفينا وقصائد الغزل التي دبجوها في التعبير عن سعادتهم بالتعددية والتسامح البريطاني، ذكرني بانبهار الباحثين الغربيين بمراحل الإشراق في التجربة الإسلامية، ما يعنى أننا انبهرنا بحاضرهم بمثل ما انبهر الغربيون بماضينا. أتحدث هنا عن كتابات المستشرقين، الألماني آدم ميتز في كتابه "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجرى"، والبريطاني توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام"، ومواطنه أ.ترتون صاحب كتاب "أهل الذمة في الإسلام".

كنت قد عالجت الموضوع في كتابي "مواطنون لا ذميون" الذي نشر في الثمانينيات وطبع أربع مرات، ونقلت فيه عن آدم ميتز قوله إن "أكبر فرق بين الإمبراطورية الإسلامية وبين أوروبا التي كانت كلها على المسيحية في العصور الوسطى يتمثل في وجود عدد هائل من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين". شهد بذلك أيضا باحث آخر هو أوركوهارت الذي كتب قائلا: "كان اختلاف الدين في أوروبا المسيحية سببا كافيا لإشعال الحرب، ولم يحدث ذلك في العهود المظلمة فقط، ولا بين المتعصبين وحدهم"، ذكر آدم ميتز أيضا أن "وجود النصارى بين المسلمين كان سببا لظهور مبادئ التسامح التي ينادي بها المصلحون المحدثون، وكانت الحاجة إلى المعيشة المشتركة وما ينبغي أن يكون فيها من وفاق نوعا من التسامح لم يكن معروفا في أوروبا العصور الوسطى".

نقلت من الأمير شكيب أرسلان ما ذكره في مؤلفه "حاضر العالم الإسلامي" عن لقاء وزير عثماني مع رجل دولة أوروبي، قال فيه الأول: "إن المسلمين مهما بلغ بهم التعصب فلم يصلوا إلى حد استئصال شأفة مخالفيهم من الملة، في حين مرت بنا قرون كان بوسعنا ألا نبقى بين أظهرنا إلا على من أقر بالشهادين بحيث نجعل بلادنا صافية للإسلام، لذلك عاش بيننا النصارى واليهود والصابئة والسامرة والمجوس. وكلهم كانوا وافرين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، أما أنتم معاشر الأوروبيين فلم تطيقوا أن يبقى بينكم مسلم واحد. واشترطتم عليه إذا أراد البقاء بينكم أن يتنصر، وقد كان في إسبانيا ملايين وملايين المسلمين، وكان في جنوبي فرنسا وفي شمال إيطاليا وجنوبها مئات العرب منهم، ولبثوا في هاتيك الأوطان أعصرا مديدة، ومازلتم تستأصلون منهم حتى لم يبق في جميع هذه البلدان شخص واحد يدين بالإسلام. ولقد طفت بلاد إسبانيا كلها فلم أعثر فيها على قبر واحد يعرف أنه لمسلم".

(٤)

لست في وارد الإقلال من قيمة ولا أهمية انتخاب صديق خان في بريطانيا، فالأمر كله جدير بالإعجاب والتقدير، لكن ملاحظتي تنصب على التشوه الذي أصاب إدراك الكثيرين عندنا حتى صاروا لا يرون في النموذج الإسلامي سوى تجربة "داعش" بكل شرورها وغلظتها. كما أنهم لم يعودوا يرون في التاريخ الإسلامي سوى أتعس وأسوأ صفحاته، حتى دأب بعض الباحثين على مقارنة أفضل ما في العلمانية الغربية بأسوأ ما في التجربة الإسلامية. وهي مقارنة ظالمة تستند إلى الانتقاء غير البريء، لأن المقارنة الصحيحة تكون بين متناظرين أو متماثلين.

لقد رد صديق خان على الذين انتقدوه لأنه يعتز بديانته الإسلامية، وقال إن هؤلاء يجهلون الإسلام كما أنهم لا يعرفون أن المسلمين المعتدلين يشكلون التيار الرئيسي في مجتمعاتهم.

وهذا كلام صحيح ودقيق، إلا أن الصراعات الراهنة حجبت ذلك الجانب، حتى أصبحت الأضواء مسلطة فقط على الإرهاب والتطرف وقطع الرءوس وسبي النساء.. إلخ. وأخشى أن يكون استمرار ذلك مقصودا من جانب البعض لكسب الصراعات الراهنة وتصفية الحسابات السياسية.

ثمة تيار عريق من الباحثين المسلمين يعمل جاهدا منذ سنوات لصناعة نموذج فكري يؤهل للتعايش والتسامح والتعدد والمواطنة والديمقراطية، من داخل المرجعية الإسلامية واعتمادا عليها. لكن الصراعات الدائرة حجبت ذلك الجهد وتعاملت معه بحساسية، إلا الذي أفسح المجال لتشكيل إدراك مشوه أصبح يسيء الظن بتلك المرجعية. بسبب ذلك فإن الحدث البريطاني خطف أبصار كثيرين في بلاد المسلمين ممن اعتبروه من عجاب الزمان، وما خطر ببالهم أن فكرة التعددية في العالم الغربية مأخوذة -مع نموذج الوقت- من نظام الملل الذي طبقته الدولة العثمانية، بحيث كان لكل مكونات المجتمع ممثل يرعى شؤونها ويدافع عن حقوقها ويشارك باسمها في إدارة الدولة.

أدري أنه لم يعد مجديا أن تذكر بالذي مضى، لأن الاستبداد شوه كل شيء في حياتنا وأعادنا قرونا إلى الوراء. من ثَمَّ فقد صار غاية مرادنا أن ندعه إلى مجتمع ديمقراطي حر تحدد في ظله خياراتنا ونموذجنا الحضاري، ونستخلص من مرجعيتنا أفضل ما فيها لتحقيق التقدم المنشود على مختلف الأصعدة.

لأسباب يطول شرحها ما عاد بوسعنا أن نستعيد صفحات الإشراق في تاريخنا والتي طويت، إذ تواضعت أحلامنا بحيث تمنينا فقط ألا ننساها.

(المصدر: بوابة الشروق  2016-05-17)




مواضيع ساخنة اخرى

استـ خبارات روسيا: النـ اتو هو من يقود الهجـ مات المضادة وليس الجيش الأوكـ راني
استـ خبارات روسيا: النـ اتو هو من يقود الهجـ مات المضادة وليس الجيش الأوكـ راني
شاهد تركيا يقـ تل حماه بالرصـ اص ثم يـ صرع طليقته في وضح النهار
شاهد تركيا يقـ تل حماه بالرصـ اص ثم يـ صرع طليقته في وضح النهار
إيطاليا تقهر هولندا وتخطف برونزية دوري الأمم
إيطاليا تقهر هولندا وتخطف برونزية دوري الأمم
السعودية: الثلاثاء 27 حزيران وقفة عرفة والأربعاء عيد الأضحى
السعودية: الثلاثاء 27 حزيران وقفة عرفة والأربعاء عيد الأضحى
رسميا.. أول مرشح يعلن خوض انتخابات الرئاسة في مصر
رسميا.. أول مرشح يعلن خوض انتخابات الرئاسة في مصر
واشنطن : إصابة 22 عسكريا في حادث تعرضت له هليكوبتر بشمال شرق سوريا
واشنطن : إصابة 22 عسكريا في حادث تعرضت له هليكوبتر بشمال شرق سوريا
هنا الزاهد تصدم جمهورها بصورة لها قبل عمليات التجميل!
هنا الزاهد تصدم جمهورها بصورة لها قبل عمليات التجميل!
جديد صاحبة الفيديو المشين لطفليها.. تورط ابنها وزوجها الثاني في المصر
جديد صاحبة الفيديو المشين لطفليها.. تورط ابنها وزوجها الثاني في المصر
سماع دوي انفجار في العاصمة الأمريكية واشنطن (فيديو)
سماع دوي انفجار في العاصمة الأمريكية واشنطن (فيديو)
البنتاغون يندد بتصرفات الصين "الخطرة" في آسيا
البنتاغون يندد بتصرفات الصين "الخطرة" في آسيا
78 زعيما دوليا يشاركون في مراسم تنصيب أردوغان السبت
78 زعيما دوليا يشاركون في مراسم تنصيب أردوغان السبت
أوغندا تقر قانونا يجرم المثلية الجنسية وبايدن غاضب ويهدد بقطع المساعدات
أوغندا تقر قانونا يجرم المثلية الجنسية وبايدن غاضب ويهدد بقطع المساعدات
لبنان.. اختطاف مواطن سعودي في بيروت
لبنان.. اختطاف مواطن سعودي في بيروت
السودان.. اشتباكات كثيفة في الخرطوم قبيل انتهاء الهدنة
السودان.. اشتباكات كثيفة في الخرطوم قبيل انتهاء الهدنة
رغم انتصاره الكبير في باخموت.. قائد فاغنر يحذر من تبعات خطير
رغم انتصاره الكبير في باخموت.. قائد فاغنر يحذر من تبعات خطير
الضفة: إصابات بينها برصاص الاحتلال وهجوم للمستوطنين على فلسطينيين
الضفة: إصابات بينها برصاص الاحتلال وهجوم للمستوطنين على فلسطينيين
  • لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :

اضف تعليق

يمكنك أيضا قراءة X


اقرأ المزيد