الدولار والسوق السوداء والبنك المركزي

تفاصيل المعركة بين البنك المركزي والسوق السوداء للنقد الأجنبي صارت بندا أساسيا في الصحف المصرية. السعر الرسمي للدولار في البنوك ثابت علي ما هو عليه, لكن سعره لدي شركات الصرافة مستمر في الارتفاع. صيحات كبار رجال الأعمال و البورصجية والشركات الأجنبية تتصاعد مطالبة بتخفيض قيمة الجنيه المصري. دعاة تخفيض قيمة الجنيه المصري يتبارون في تقدير السعر المناسب للدولار. بعضهم يطالب بأن يكون السعر9 جنيهات, والبعض يقول9.5 جنيه, ويصل البعض بالمزاد إلي عشرة جنيهات بالتمام والكمال. طبعا كل تلك التقديرات لا تمت بأي صلة للسعر الرسمي في البنوك المصرية والذي لا يتجاوز7.83 جنيه.

دعاة تخفيض قيمة الجنيه المصري يقولون لنا إن هذا الإجراء سيؤدي إلي زيادة تنافسية صادراتنا لأنها ستصبح أرخص أمام المستورد الخارجي فيزداد الطلب عليها. المشكلة أنه لم يحدث في تاريخنا علي مدي العقود الثلاثة الماضية أن أدي تخفيض قيمة الجنيه إلي زيادة الصادرات! بل إنه علي الرغم من التخفيضات المتوالية لسعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار خلال الأعوام الأربعة الماضية فإننا لم نر رجال أعمالنا يحققون طفرة في الصادرات ولا غزوا للأسواق الخارجية. المفاجأة أن الذي حدث كان العكس تماما فقد شهدت حصيلة الصادرات تراجعا كبيرا سواء خلال السنة المالية المنتهية في يونيو2015 أو خلال الربع الأول من السنة المالية الحالية!.

رجال الأعمال لم يكفوا خلال الشهور القليلة الماضية عن المطالبة بترك الحرية لهم لشراء النقد الأجنبي من خارج الجهاز المصرفي, أي من السوق السوداء, بأي سعر. سمعت أحدهم في حوار مباشر يقول, إذا كنت مستعدا لشراء الدولار بعشرة جنيهات فما دخل البنك المركزي كي يمنعني؟ عندما تقول لهؤلاء إن رفع سعر الدولار يعني رفع الأسعار المحلية لكل السلع المستوردة, وهو ما لا يتحمله غالبية المواطنين, يقولون لك بكل ثقة.. الحكومة تعالج الأمر من خلال الدعم. هذه المقولة التي تكررت علي لسان أكثر من رجل أعمال خلال الفترة الماضية تعني ببساطة اتركونا نحقق ما نريده من أرباح, ولتتحمل الحكومة التكاليف! ارتفاع الأسعار المحلية للسلع المستوردة يترك الحكومة أمام أحد أمرين, إما ترك الشارع يغلي من ارتفاع الأسعار.. وهو الأمر غير المتصور, أو زيادة مخصصات الدعم في الموازنة العامة للحفاظ علي أسعار السلع الأساسية عند نفس المستوي دون ارتفاع. طبعا السادة رجال الأعمال لا يتحدثون عن أثر زيادة الدعم علي اتساع عجز الموازنة العامة وازدياد حاجة الحكومة للاستدانة. كما لا يشرح لنا السادة خبراء البورصة وأسواق رأس المال كيف سيتغلبون علي الأثر السلبي لاتساع عجز الموازنة والدين العام علي التصنيف الائتماني لمصر, وبالتالي علي تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية.

التصريحات الرسمية للبنك المركزي المصري ترفع شعار لا تراجع ولا استسلام, وتؤكد علي الرفض التام لمسألة تخفيض الجنيه المصري. إلا أن الواقع يقول لنا شيئا آخر! الواقع يقول إن البنك المركزي المصري يقوم فعليا بالتخفيض التدريجي لقيمة الجنيه المصري. عندما يسمح البنك المركزي لمستوردي عدد من السلع الأساسية ومستلزمات الإنتاج بشراء النقد الأجنبي اللازم لوارداتهم من خارج الجهاز المصرفي, فإن هذا يعني أنه قد أقر تطبيق سعر صرف السوق السوداء علي جزء من المعاملات. وعندما تقضي القواعد الرسمية المنظمة لعمل شركات الصرافة بأن يكون الحد الأقصي للفرق في سعر بيع الدولار بينهم وبين البنوك هو15 قرشا, ثم يتم تسريب أخبار عن اجتماع يعقده محافظ البنك المركزي مع شركات الصرافة ليتفق معهم علي ألا يتجاوز سقف السعر الذي يبيعون به الدولار8.65 جنيه, في حين أن سعره في البنوك لا يتجاوز7.83 جنيه فإن هذا يعني تخفيضا فعليا للجنيه المصري. وعندما يتم تسريب أخبار من مسئولين حكوميين بأن الموازنة العامة الجديدة تعد علي أساس أن سعر الدولار8.25 جنيه, نقول ثبتت الرؤية!.

وحيث أنه لا علاقة في الحالة المصرية بين تخفيض قيمة الجنيه وبين زيادة الصادرات, فيبدو أن الهدف هو مساندة توجه الحكومة والبنك المركزي لتنشيط البورصة. الحكومة تتوجه للمستثمرين برسالة جديدة مفادها, إذا كنتم غير متحمسين لإقامة مشروعات جديدة, فسوف نسهل عليكم الأمر ونبيع لكم ما نملكه بالفعل من مشروعات ناجحة. البورصة موجودة ويمكن أن نتيح لكم من خلالها الاستحواذ علي ما تريدون. فالمهم هو زيادة تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية إلي البورصة المصرية حتي ولو كان المقابل هو ببيع أصولنا الوطنية. وبما أن المشتري الأجنبي يريد تحمل أقل تكلفة, فلابد أن تكتمل المنظومة بتخفيض قيمة الجنيه المصري كي يتم البيع بتراب الفلوس.

البنك المركزي المصري يعود بنا إلي نفس الممارسات التي عشناها في الثمانينيات, في ظل نظام تعدد أسعار الصرف ونظام الاستيراد بدون تحويل عملة, رغم أن تلك الممارسات قد عجزت دوما عن استعادة الاستقرار لسوق الصرف, وانتهت دوما بالمزيد من التراجع في قيمة الجنيه المصري والمزيد من اشتعال أسعار السلع في السوق المحلية.

لا حل لمشكلة نقص مواردنا من النقد الأجنبي إلا بالمضي قدما في إجراءات تخفيض الاستيراد, وتدعيم بنيتنا الإنتاجية, لاستعادة القدرة علي إنتاج قدر معتبر من السلع والخدمات التي نحتاجها, وإنتاج وتصدير سلع وخدمات توفر لنا النقد الأجنبي اللازم لدفع فاتورة وارداتنا.

(المصدر: الاهرام 2016-02-21)