540 مليار دولار تختفي من الأسواق الناشئة .. أول هروب جماعي

تولى بول فولكر منصب رئيس مجلس إدارة الاحتياطي الفيدرالي في عام 1979، مع مهمة لترويض التضخم في الولايات المتحدة بعد وصول صدمات أسعار النفط والسلع الأساسية إلى نهايتها.

في نهاية المطاف نجح فولكر، لكن ليس قبل أن يتردد صدى آثار سياسته في أنحاء العالم كافة، ما ساعد على إثارة أزمات في ما كان يسمى في ذلك الحين البلدان النامية.

المشاكل في أمريكا اللاتينية وصلت إلى ذروتها بعد ثلاثة أعوام من استلامه المنصب، مدفوعة من ارتفاع أعباء الديون، وانخفاض أسعار السلع الأساسية، وهروب رؤوس الأموال. في آب (أغسطس) 1982 أخبرت المكسيك المصارف التجارية التي مولت التصنيع فيها بأنها لا تستطيع سداد ديونها. المصرفيون المذعورون أوقفوا الإقراض من الناحية العملية، الأمر الذي أدى إلى الأزمة المالية في أمريكا اللاتينية. بعد أكثر من 30 عاما، السؤال بالنسبة للأسواق الناشئة هو أين تكمن أوجه الشبه وأوجه الاختلاف.

قال الاحتياطي الفيدرالي إن السياسة النقدية في الولايات المتحدة ينبغي أن تبدأ التشديد هذا العام، لكن خطر انخفاض الأسعار، وليس التضخم، هو الذي يقلق صناع السياسة. الركود في الصين التي تعتبر من الأسواق الناشئة وثاني أكبر اقتصاد في العالم، قد يحدد الاتجاه للنمو العالمي وما إذا كانت أسعار السلع ستستمر في الانخفاض.

عملت البنوك المركزية على تجميع احتياطيات العملة الصعبة، مركزة الانتباه على ما إذا كانت الشركات المقترضة في المنطقة هي الأكثر عرضة لخطر التحولات في تدفق الأموال. التغيرات في حركة الدولار عبر النظام المالي العالمي يبدو أنها ستشكل أكبر تحول في الوضع الراهن.

يقول كريستيان كيلر، رئيس قسم أبحاث الاقتصاد في بنك باركليز: "إن تدفقات رأس المال تباطأت بشكل حاد في الأشهر الأخيرة واحتمالات حدوث تحول جذري فوري باتت قاتمة". ويضيف: "هذا يخاطر بخلق حلقة مفرغة سلبية تعتمد فيها تدفقات رأس المال على النمو، لكن النمو نفسه يعتمد على استئناف تدفقات رأس المال".

واستشهد بتقرير صادر عن معهد التمويل الدولي يقول إن انخفاض الاستثمارات الأجنبية المباشرة والتدفقات الخارجة على يد مستثمري القطاع الخاص سيقترنان ويسحبا 540 مليار دولار من الأسواق الناشئة هذا العام، وهو العام الأول الذي تشهد فيه رؤوس الأموال هروبا شاملا منذ الثمانينيات.

وتقارن هذه التقديرات بصافي تدفقات داخلة بلغت 32 مليار دولار العام الماضي، و319 مليار دولار في عام 2013، وذلك وفقا لمعهد التمويل الدولي الذي يحذر من أن النمو بالنسبة للأسواق الناشئة "سيبقى أقل من الاتجاه العام بكثير والتباعد في السياسة النقدية سيبقى مصدر قلق".

وبحسب "بي إن بي باريبا"، فإن نوبة من القلق تبدو واضحة أيضا لدى المستثمرين في صناديق الاستثمار المشتركة المخصصة للأسواق الناشئة، التي استردت 7 في المائة من الأصول الموضوعة في صناديق السندات حتى الآن هذا العام، وما يقارب 12 في المائة من صناديق الأسهم.

في الوقت نفسه، من حيث تدفقات الأموال "الساخنة"، فإن الصناديق التي يتم تداولها في البورصة تمثل أدوات شائعة بالنسبة للمستثمرين لتحديد المواقع الاستثمارية. ووفقا لـ "جيه بي مورجان"، استرد المستثمرون 1.6 مليار دولار من صناديق سندات الأسواق الناشئة المتداولة في البورصة في الأشهر الثلاثة الماضية فقط، أي نحو 8 في المائة من المجموع.

وما يزيد الضغط العودة مرة أخرى إلى السبعينيات، ما يحدث على صعيد العائدات النفطية. ارتفاع أسعار النفط الخام في ذلك الحين أدى إلى جعل الدول المنتجة للنفط تملك فوائض كبيرة من الدولارات للاستثمار، كثير منها ذهب إلى الأسواق الناشئة. وانخفاض الأسعار يعني أن إيرادات أقل من العائدات النفطية تعود إلى النظام، ويمكن حتى أن ينعكس التدفق، لأن عددا من البلدان تنفق من الاحتياطيات التي جمعتها في الأعوام الخمسة الماضية.

ألبيرتو جالو، مختص استراتيجية الائتمان الكلي في رويال بانك أوف سكوتلند، يقول إن بعض المستثمرين الذين يحتفظون بسندات دولارية أصدرتها شركات في الأسواق الناشئة ربما يكونون في حالة إنكار، لأن شركات السلع الأساسية والزراعية هي أكبر شركات غير مالية مقترضة بالدولار. "حتى الآن سندات شركات الأسواق الناشئة بالعملة الصعبة بقيت مرنة للغاية ولم تشهد سوى جزء صغير جدا من التدفقات الخارجة". ويضيف: "لكن بعض الأسواق الناشئة والشركات التي تركز على السلع الأساسية والبنية التحتية تتضرر".

ويزداد التأثير تعقيدا من خلال الدولار الذي ارتفع من حيث القيمة مقابل عملات جميع الأسواق الناشئة هذا العام. وشهدت الدول المنتجة للسلع الأساسية أسعار منتجاتها تنخفض بسبب تباطؤ وتيرة النمو في الصين. لكن الارتفاع في قيمة الدولار يعوض عن التأثير بالنسبة لتلك الدول التي يتم قياس تكاليفها بالعملة المحلية "الضعيفة".

لذلك في حين أن الأسواق الناشئة، مثل البرازيل وتركيا، عرضة للعوامل السياسية فضلا عن العوامل الاقتصادية - تحالف هش وغير شعبي في البرازيل، وعنف إقليمي في تركيا - إلا أن مخاوف الإجهاد على نطاق واسع قد يكون مبالغا فيها.

يقول نيل شيرينج، من شركة كابيتال إيكونوميكس: "تتركز المخاطر في عدد قليل من الاقتصادات. والميزانيات العمومية في غالبية الأسواق الناشئة تبدو سليمة". بهذا المعنى، ليس دور الأسواق الناشئة أن تحصل على أزمة هذه المرة ـ بعد الذعر الذي أصاب الولايات المتحدة عام 2008 وأزمة الديون التي عصفت بأوروبا عام 2011. أرقام النمو الاقتصادي من الصين للربع الثالث، المقرر صدورها هذا الشهر، قد تؤدي إلى تهدئة الأعصاب، أو إثارة موجة استجابة سياسة منسقة لها التأثير نفسه.

مع ذلك، انخفاض تأثير التحفيز النقدي دفع مات كينج، خبير استراتيجية الائتمان في سيتي جروب، للسؤال عما إذا كان العالم قد وصل إلى حده الائتماني: "نمو الائتمان يتطلب مقترضين مستعدين، فضلا عن مقرضين. نحن ربما نقترب من حدود الطرفين معا".

(المصدر: فاينانشال تايمز 2015-10-10)