رؤيتى لـ «القرن الحادى والعشرين» (86) سوروس بين المال والفلسفة
فى القرن الرابع قبل الميلاد قال أرسطو إن الانسان ابتدع الفنون أولا وكان بعضها للضرورات وبعضها للذات، ثم اكتشف الفلسفة التى لم تكن لها علاقة لا بالضرورات ولا باللذات، أى لم تكن لها علاقة بالانتاج أيا كان. ومن هنا قال عنها أرسطو إنها نشأت فى البلاد التى فيها الفراغ. ومن هنا ثانياً قال إن الفلسفة لم تنشأ إلا عندما توفرت ضرورات الحياة، وعندما توفرت الأشياء التى تجلب الراحة والمتعة. ومن هنا ثالثاً قال إن الفلسفة هى علم حر ابتدعه الانسان لذاته وليس لأية منفعة مادية. ومن هنا رابعاً اشترط أرسطو أن يكون الفيلسوف ثرياً لكى يتفلسف.
وفرة المال اذن، بحسب أرسطو، شرط لازم إذا أراد الانسان أن يتفلسف. ومع ذلك فاللافت للانتباه أن هذه العلاقة بين وفرة المال والتفلسف توارت فى تاريخ الفلسفة إلى أن جاء القرن الحادى والعشرين وأثارها ملياردير مجرى اسمه جورج سوروس، ووردت الإثارة فى كتاب عنوانه «سوروس.. حياة وأحوال بليونير حالم» (2003). تحدث فيه عن سيرته الذاتية ولكن صياغتها من صنع أحد مريديه اسمه ميكل كاوفمان وُلد فى باريس ولكنه يعيش فى أمريكا.
والسؤال اذن: مَنْ هو سوروس؟ وما إشكاليته مع نفسه ومع نهايات القرن العشرين وبداية هذا القرن؟
عندما كان طالباً بكلية الاقتصاد اللندنية اقترب من أستاذ الفلسفة كارل بوبر بريطانى الجنسية من أصل نمساوى. كان قد هاجر إلى بريطانيا بسبب اضطهاد هتلر لليهود وعدوانه على وطنه. وبسبب هذا الاضطهاد وذلك العدوان بدأ فى عام 1938 فى تأليف كتاب عنوانه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» وانتهى من تأليفه فى عام 1945. وهو مكون من جزءين: الجزء الأول عن أفلاطون والجزء الثانى عن هيجل وماركس. والفكرة المحورية فى الجزءين تدور على مفهوم النظام الشمولى مثل النازية والشيوعية، وهو نظام يتوهم امتلاك الحقيقة المطلقة، وبالتالى يقف عقبة أمام التطور نحو العقلانية والحرية والمساواة، هذا بالاضافة إلى أن الحضارة لم تتحرر بَعْد من الصدمة التى عانتها إثر تأسيسها، وهى التحول من المجتمع المغلق المحكوم بقوى سحرية إلى المجتمع المفتوح المندفع نحو اطلاق العقل الناقد لدى الانسان. وقد كانت هذه الصدمة من العوامل التى أفضت إلى بزوغ أصوليات دينية تحاول تدمير الحضارة والعودة بها إلى النزعة القبلية.
وانبهر سوروس بهذه التفرقة بين المجتمع المغلق والمجتمع المفتوح وانحاز إلى الثانى دون الأول، ومن ثم أنشأ فى عام 1982 «مؤسسة صندوق المجتمع المفتوح» وأعطى منه منحاً لدول أوروبا الشرقية على شرف بوبر الذى كان فى حينها حياً. وفى عام 1986 دفع 100 مليون دولار لدفع مرتبات العلماء السوفييت لأن الدولة كانت عاجزة عن الدفع. ثم دفع 100 مليون دولار لتحرير العلوم الاجتماعية والانسانية من العقيدة الشيوعية المنغلقة، ودفع ملايين أخرى لتحويل المجتمع السوفيتى من مجتمع مغلق إلى مجتمع مفتوح. ومن هنا قيل عنه إنه من الخيرين. إلا أن مفهوم الخير عنده لم يكن يعنى العطف على الفقراء إنما كان يعنى العطف على أولئك الذين يريدون تغيير الواقع، أى على الفاعلين.
وعندما احتفلت جامعة أكسفورد بتكريم سوروس سئل عن هويته فكان جوابه أنه «ممول لمريدى التغيير والتفلسف».
وفى عام 1998 أصدر كتاباً عنوانه الرئيسى «أزمة الرأسمالية الكوكبية» وعنوانه الفرعى «المجتمع المفتوح فى خطر». وواضح من العنوان الفرعى أن سوروس متأثر ببوبر، ولكنه يتميز عنه فى ربطه بين بزوغ الكوكبية ودخول المجتمع المفتوح فى أزمة. فالاقتصاد فى إطار الكوكبية يتسم بحرية التجارة فى السلع والخدمات وسرعة حركة رأس المال إلى حيث يجد أفضل فائدة. وهذه الحركة بدورها تفضى إلى نمو الأسواق المالية الكوكبية فتنشأ امبراطورية ولكن بلا سلطة وبلا بنية، ورعاياها ليسوا على وعى بأنهم محكومون بنظام رأسمالى كوكبى، ولكنهم على وعى بأنهم محكومون بكائن مجرد ليس فى الامكان رؤيته يحاول غزو أسواق جديدة. بيد أن هذا الغزو لا يعنى احتلال أرض إنما يعنى احتلال بشر. ومع احتلال البشر يصبح المجتمع المفتوح فى خطر.
وهنا ثمة سؤال لابد أن يثار: من أين جاء سوروس برأس المال الذى سمح له بتمويل حركات التمرد على المجتمع المغلق؟
إن سوروس يزهو بأنه من الشخصيات البارزة فى سوق العملات بوجه عام، و«الأربعاء الأسود بوجه خاص». والأربعاء الأسود يشير إلى 16 سبتمبر 1992 عندما قررت الحكومة البريطانية سحب الجنيه الانجليزى من السوق الأوروبية بسبب عجزها عن المحافظة على سعره فى التبادل. وهنا حقق سوروس أرباحاً ضخمة من المضاربات فى عملة الجنيه الانجليزى وصلت إلى 2 مليار دولار. وقيل عنه فى حينها إنه الرجل الذى كسر بنك انجلترا، وقال هو عن نفسه إنه «رجل دولة بلا دولة».
والرأى عندى أن هذا النوع من الربح، سواء جاء من مضاربات أو من شركات توظيف الأموال التى أسستها الأصولية الاسلامية أو من تجارة المخدرات أو السلاح، أطلقت عليه فى عام 1974 مصطلح «الرأسمالية الطفيلية» وكان ذلك بمناسبة سياسة الانفتاح التى كان قد اطلقها الرئيس السادات. وهذا النوع من الرأسمالية ينمو خارج اقتصاد الدولة وبطريقة سرطانية. وبسبب أنه طفيلى فإنه يدخل فى علاقة عضوية مع الأصوليات الدينية لتدمير الحضارة. والشائع عن سوروس أنه مع صعود ثورات الربيع العربى فتح فروعاً لمؤسسة صندوق المجتمع المفتوح فى الشرق الأوسط.
والسؤال عندئذ: أى نوع من الحركات السياسية انتقاها سوروس لتمويلها، هذا مع ملاحظة أن الحركات الطاغية فى الشرق الأوسط هى الحركات الأصولية ؟
هذا مجرد سؤال وليس من مجيب سوى سوروس.
(المصدر: الاهرام 2015-08-04)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews